لم يكن أحد في ضاحية “لاكورونيا” الإسبانية يتوقع أن اختفاء فتاة في الخامسة عشرة من عمرها سيفجر واحدة من أخطر قضايا تهريب البشر العابرة للقارات. “لينا مارتينيز”، الطالبة المتفوقة، غادرت منزل أسرتها صباح يوم الإثنين دون أن تودّع أحدًا، تاركة وراءها هاتفًا مغلقًا ورسالة مقتضبة: “سأعود قريبًا، لا تقلقوا.”
في البداية، تعاملت الشرطة مع الحالة كحادثة هروب مراهقة تقليدية، لكن التحقيقات سرعان ما قادت إلى مسار أكثر خطورة، بعد تلقي والد الفتاة رسالة من رقم مجهول جاء فيها: “ابنتك ليست حيث تتوقع. ابحث خارج الحدود.” هذه الرسالة أثارت الذعر، وأطلقت شرارة تحقيق دولي شاركت فيه سلطات من ثلاث دول أوروبية، بالتنسيق مع الإنتربول.
التحقيقات كشفت أن لينا تواصلت قبل اختفائها مع حساب على “إنستغرام” يُدعى “موديلا_دريم”، يُروّج لفرص عمل في عروض الأزياء في باريس وبرلين. الحساب بدا احترافيًا، مليئًا بصور لفتيات شابات ومراجعات مزيفة. بعد تحليل الجهاز اللوحي الخاص بها، تبيّن أنها أرسلت صورة جواز سفرها وعنوان منزلها للحساب قبل أيام فقط من اختفائها.
بتتبع إشارات الهاتف المحمول، أكدت الشرطة أن لينا استقلت حافلة إلى مدريد، ثم قطارًا سريعًا إلى باريس. هناك اختفت آثارها. ما زاد من تعقيد القضية هو استخدام الجناة لتقنيات متقدمة لإخفاء تحركات الضحية، شملت تبديل شرائح الاتصالات وتعطيل إشارات GPS.
وبعد أسبوعين من التحقيق، قادت معلومة من شاهد عيان إلى شقة سكنية في منطقة “سان دوني” بضواحي باريس، حيث شوهدت فتاة تشبه لينا برفقة رجلين آسيويين وامرأة إفريقية. عملية مداهمة للمكان كشفت عن وجود ثلاث فتيات قاصرات، إحداهن من البوسنة، والثانية من رومانيا، والثالثة بالفعل هي “لينا” نفسها، في حالة صحية سيئة، وتبدو عليها آثار الإرهاق النفسي وسوء التغذية.
السلطات اكتشفت أن الشقة ليست إلا محطة أولى ضمن سلسلة منازل آمنة تديرها شبكة اتجار بالبشر عابرة للقارات، تستهدف الفتيات الصغيرات من خلال حسابات وهمية على تطبيقات التواصل، وتستدرجهن بوعود العمل في مجالات الأزياء أو الترفيه، ثم يتم تهريبهن إلى دول أوروبا الشرقية أو الشرق الأوسط.
خلال تفتيش الشقة، عثرت الشرطة على أجهزة حاسوب تحتوي على ملفات تفصيلية لأكثر من 60 فتاة تم استدراجهن بنفس الأسلوب، إلى جانب تسجيلات فيديو وتفاصيل صفقات تمّت بالدولار واليورو وعملات مشفّرة. الجناة احتفظوا بصور الجوازات والعناوين، وأرسلوا تعليمات محددة للضحايا عن كيفية السفر وتجنّب الشكوك.
في إفادتها الأولى، قالت لينا إنها نُقلت فور وصولها إلى باريس إلى غرفة مغلقة، طُلب منها عدم الاتصال بأهلها، وأخبرها أفراد الشبكة أنها ستخضع “لتدريب تمهيدي” قبل بدء العمل. وحين رفضت التعاون، تم تهديدها بفضح صورها التي أرسلتها، وحرمانها من الطعام والدواء.
وأكدت التحقيقات أن الشبكة مرتبطة بمنظمات تهريب دولية مقرّها في رومانيا وتركيا، وتعمل بالتوازي مع شبكات محلية في فرنسا وألمانيا. تمتد العمليات إلى شمال إفريقيا أيضًا، حيث يتم تسويق الضحايا في السوق السوداء، أو بيعهن للعمل القسري أو الاستغلال الجنسي. وتبين أن الشبكة استخدمت ما لا يقل عن 14 شقة موزعة بين باريس وبروكسل وفيينا لتخزين الضحايا.
السلطات أعلنت اعتقال 21 شخصًا متورطًا، بينهم سيدتان ورجل أعمال فرنسي كان يوفر الحماية القانونية للشبكة مقابل عمولات خفية. كما تم ضبط مبلغ يقارب 1.2 مليون يورو نقدًا، وأجهزة اتصال مشفّرة، وأدلة تثبت إرسال الأموال عبر بوابات مالية رقمية.
عائلة لينا، التي كانت في انتظار الأمل، استقبلت ابنتهم بالدموع في مشفى سانت جوزيف بباريس. الأطباء أكدوا أنها بحاجة إلى دعم نفسي طويل الأمد، وأنها تعاني من أعراض صدمة شديدة، إضافة إلى اضطرابات في النوم والثقة بالآخرين.
قضية لينا فتحت بابًا واسعًا للنقاش في الإعلام الأوروبي، حيث طالبت جمعيات حقوق الإنسان بتشديد الرقابة على الحسابات الرقمية الموجهة للمراهقين، وتشديد العقوبات على شبكات الاستدراج الرقمي، وتوفير خطوط إبلاغ طارئة يمكن للمراهقين اللجوء إليها عند الشعور بالخطر.
من جهتها، أطلقت وزارة الداخلية الإسبانية حملة بعنوان “لا للأوهام الرقمية”، موجهة للمراهقين، تحذرهم من الإعلانات المجهولة التي تعرض وظائف أحلام مقابل معلومات شخصية.
السلطات الأوروبية أكدت أنها ستوسع التعاون مع منصات التكنولوجيا الكبرى لرصد الحسابات المشبوهة بشكل استباقي.
ويبقى السؤال الأكبر: كم فتاة مثل لينا لم يتم العثور عليها بعد؟
وإلى متى ستبقى الشبكات الرقمية وسيلة سهلة للصيد البشري في عصر يزعم الحماية الرقمية؟