التقنيات الحديثة في خدمة العدالة : كيف قادت صورة ذاتية إلى كشف جريمة غامضة في إيطاليا

في عصرٍ تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية، لم تعد الهواتف الذكية وأجهزة التصوير أدوات للتوثيق فقط، بل تحولت إلى أسلحة دقيقة في يد العدالة، تسهم أحيانًا في حل ألغاز لطالما استعصت على رجال الأمن. في إيطاليا، حيث تمتزج التقاليد العريقة بالتقدم التكنولوجي، وقعت جريمة أثارت الرأي العام، قبل أن تسهم صورة ذاتية (سيلفي) بسيطة في قلب مجريات التحقيق، لتتحول إلى دليل دامغ أطاح بالقاتل وأنصف الضحية.
بداية القصة: جريمة بلا خيوط واضحة
في مدينة بولونيا، الواقعة شمال إيطاليا، تم العثور على جثة شابة عشرينية داخل شقتها، في ظروف غامضة. لم تكن هناك علامات اقتحام واضحة، ولا كاميرات مراقبة داخلية ترصد لحظة دخول أو خروج أي شخص. بدا المشهد للوهلة الأولى وكأنه جريمة مُحكمة، ارتكبها شخص يعرف الضحية وربما يملك مفتاح الشقة. لكن من هو؟ ولماذا؟
توقفت التحقيقات لعدة أيام عند دائرة المقرّبين، من أصدقاء وشركاء عمل، ولكن دون وجود أدلة مادية ملموسة، أو دوافع واضحة تقود إلى الفاعل. حتى الهاتف الشخصي للضحية كان مفقودًا، وهو ما صعّب المهمة أكثر، خصوصًا أن كثيرًا من المعطيات الحديثة باتت تُستخلص من سجل المكالمات، الرسائل، أو تطبيقات التواصل الاجتماعي.
الاختراق التقني: صورة ذاتية تفضح المجرم
في تحوّل دراماتيكي لمسار التحقيق، حصل المحققون على خيط مفاجئ: صورة “سيلفي” محفوظة تلقائيًا في “سحابة” (Cloud) إلكترونية مربوطة بحساب الضحية، التُقطت بعد وفاتها المفترضة بساعات.
الصورة، التي وصلت إلى فريق البحث من خلال ربط حساب الضحية السحابي بجهاز الكمبيوتر الخاص بها بعد استعادته، أظهرت شخصًا يلتقط صورة لنفسه داخل غرفة الضحية، مرتديًا قميصها، ويبدو مسترخيًا بشكل لا يتوافق مع المشهد المروع الذي عُثر فيه على الجثة لاحقًا. لم يكن يعلم أن صورة واحدة كفيلة بتغيير كل شيء.
وبمجرد تحليل البيانات الوصفية للصورة، تأكدت الشرطة من توقيتها الدقيق، والموقع الجغرافي الذي تطابقت إحداثياته مع مسرح الجريمة. لم يعد أمام المحققين سوى تحديد هوية الشخص الظاهر في الصورة، وهو ما تم سريعًا بعد مقارنة ملامحه بسجلات الشرطة، ليتبين أنه أحد معارف الضحية من بعيد، له سوابق في التورط بقضايا تحرش واعتداء.
القبض والاعتراف
بعد جمع المزيد من الأدلة، ألقت الشرطة القبض على المشتبه به، الذي لم يستطع تفسير وجوده في الشقة ولا ظهوره بالصورة، وبعد ساعات من التحقيق انهار واعترف بارتكابه الجريمة، مدعيًا أنها “لم تكن مقصودة” وأن خلافًا نشب بينه وبين الضحية تطور بشكل غير متوقع. وبرغم محاولته التنصل من دوافع القتل، إلا أن النيابة العامة وجّهت له تهم القتل العمد، والسطو، ومحاولة طمس الأدلة.
دور التكنولوجيا في تحقيق العدالة
هذه الحادثة لم تمر مرور الكرام في وسائل الإعلام الإيطالية والعالمية، بل أعادت طرح تساؤلات مهمة حول الدور المتنامي للتكنولوجيا في مجال التحقيقات الجنائية. فبينما كانت الصورة الذاتية تُعتبر في بداياتها وسيلة للتسلية أو التفاخر، أصبحت اليوم أداة قانونية معتمدة، تُستخدم ضمن سلاسل الأدلة الرقمية، القابلة للعرض في المحكمة.
ولعل أبرز ما ساعد في حل هذه القضية هو تقاطع عاملين: التخزين السحابي الذي يحتفظ تلقائيًا بنسخ من الصور والبيانات حتى بعد حذفها من الجهاز، والبيانات الوصفية (Metadata) التي تحفظ تاريخ ووقت ومكان التقاط الصورة، ما يوفر إثباتًا دقيقًا لا يمكن نفيه بسهولة.
رأي الخبراء
يقول الخبير الجنائي الإيطالي “ماركو روسّي” في تصريح له عقب الحادثة:
> “نحن أمام نقلة نوعية في علم الجريمة، فالتقنيات التي كانت تُستخدم لحماية الخصوصية أو تسهيل الحياة اليومية، أصبحت الآن مساهمًا رئيسيًا في كشف الجريمة وتحديد الجناة.”
وأضاف:
> “لكن علينا أن نوازن بين استخدام هذه الأدوات بشكل قانوني يضمن العدالة، وبين احترام حقوق الأفراد الرقمية.”
خاتمة: صورة واحدة تغيّر كل شيء
ربما لم تتوقع الضحية أن هاتفها سيشهد على لحظاتها الأخيرة، أو أن صورة ذاتية لم تُلتقط بيدها ستكون السبب في حصولها على العدالة. لكنها فعلًا كانت كذلك. في عصر الرقمنة، لم تعد الجرائم قادرة على الاختباء خلف الأبواب المغلقة، فهناك دومًا عين رقمية تراقب، وبيانات صامتة قادرة على قول الكثير.
هذه الحكاية الإيطالية هي واحدة من عشرات القصص التي تُظهر أن العدالة باتت تمتلك حلفاء جددا، لا ينامون، ولا ينسون: البيانات والتقنيات الحديثة.