السودان يحترق: صراع البقاء وسط جحيم الحرب والانهيار

في السودان، لا تزال نيران الحرب تلتهم الأخضر واليابس، بينما يكافح الملايين للبقاء على قيد الحياة في ظل أوضاع معيشية كارثية. تدور المعارك بلا هوادة بين الجيش وقوات الدعم السريع في مناطق متفرقة، حيث يتبدل ميزان السيطرة بشكل يومي، وسط معاناة المدنيين العالقين بين نيران الأطراف المتحاربة.
شهد الأسبوع الماضي تصعيدًا عنيفًا في العاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر، حيث أفادت مصادر محلية بأن المدنيين يُستخدمون دروعًا بشرية، كما أن الإمدادات الغذائية والطبية باتت شبه منعدمة. ومع تصاعد وتيرة القصف، ازداد عدد النازحين الذين تجاوزوا خمسة ملايين شخص بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
أما على المستوى الإنساني، فالوضع يزداد قتامة. فالخدمات الصحية منهارة تمامًا، والمستشفيات إما مدمرة أو خارج الخدمة، وسط تفشي أمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد. كما تشهد الأسواق نقصًا حادًا في السلع الأساسية وارتفاعًا جنونيًا في الأسعار، مما جعل الحياة اليومية أشبه بكابوس مستمر.
اللافت في هذه الأزمة أن المجتمع الدولي يبدو مشلولًا، حيث لم تحقق المبادرات الأممية والإقليمية أي اختراق حقيقي في جهود وقف إطلاق النار. وبينما تطلق منظمات الإغاثة نداءات استغاثة عاجلة، تستمر المعارك في تمزيق النسيج الاجتماعي السوداني.
انهيار مؤسسات الدولة… والفراغ يلتهم الوطن
لم تسلم مؤسسات الدولة من تداعيات الحرب، إذ شُلّت حركة القضاء والإدارة والشرطة، ما فتح الباب أمام انتشار الفوضى وعمليات النهب وجرائم القتل على الهوية. ومع غياب السلطة المركزية، باتت العديد من المدن تحت حكم ميليشيات محلية أو جماعات مسلحة تتصارع على الموارد والنفوذ.
كثير من السكان في مناطق النزاع باتوا يعتمدون على “اقتصاد البقاء”، حيث تُباع السلع في السوق السوداء بأسعار خيالية، فيما يُجبر البعض على تبادل ممتلكاتهم الشخصية مقابل الغذاء أو الدواء. المدارس مغلقة، والكهرباء مقطوعة لساعات طويلة إن لم تكن لأيام، وشبكات الإنترنت والاتصالات تتعرض لانقطاعات متكررة، ما يزيد من عزلة السكان.
نداءات عاجلة… واستجابة خجولة
رغم المناشدات العديدة من منظمات مثل الصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي، فإن حجم الاستجابة الدولية ما يزال دون المستوى المطلوب. ويعود ذلك في جزء منه إلى صعوبة الوصول للمناطق المتضررة نتيجة القتال، إضافة إلى تعقيد الوضع السياسي والانقسام الحاد في المواقف الإقليمية تجاه أطراف النزاع.
وقد حذّرت الأمم المتحدة من أن نحو 25 مليون سوداني – أي أكثر من نصف عدد السكان – باتوا بحاجة ماسة للمساعدة، بينهم 14 مليون طفل. كما أن خطر المجاعة يطرق أبواب مناطق واسعة، خصوصًا في دارفور وكردفان، حيث منعت المعارك وصول شحنات الإغاثة.
تدهور اقتصادي غير مسبوق
من ناحية أخرى، ينهار الاقتصاد السوداني بوتيرة مرعبة. فقد فقد الجنيه السوداني أكثر من 80% من قيمته منذ اندلاع الحرب، وارتفعت أسعار الوقود والمواد الأساسية بشكل غير مسبوق. توقفت الصادرات الزراعية والصناعية، وتقلصت الإيرادات الحكومية إلى الحد الأدنى، فيما تفاقمت البطالة بعد أن أغلقت آلاف المصانع والشركات أبوابها.
ويحذّر خبراء من أن استمرار الوضع على هذا النحو قد يؤدي إلى انهيار كامل للاقتصاد، ودخول البلاد في حالة إفلاس تام، وهو ما قد يُطيل أمد الأزمة لعقود، حتى بعد توقف الحرب، إن حدث ذلك.
مأساة اللاجئين والنازحين: رحلة هروب بلا نهاية
على الحدود السودانية مع تشاد وجنوب السودان ومصر، تتكدس المخيمات باللاجئين الذين فرّوا من جحيم الحرب. تفتقر تلك المخيمات إلى أدنى مقومات الحياة، حيث يعاني اللاجئون من سوء التغذية ونقص الماء النظيف والخيام.
العديد من هؤلاء فرّوا دون وثائق، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والانتهاكات، سواء من جهات أمنية أو جماعات تهريب. كما أن بعض الدول المجاورة باتت تفرض قيودًا صارمة على دخول السودانيين، خوفًا من زعزعة استقرارها الداخلي.
ضياع جيل بأكمله
واحدة من أكثر الأزمات إيلامًا هي تلك التي تتعلق بالتعليم. فمعظم المدارس مدمرة أو مغلقة، والطلاب خارج مقاعد الدراسة منذ أكثر من عام. وقدّرت منظمات دولية أن أكثر من 12 مليون طفل سوداني محرومون حاليًا من التعليم، مما يهدد بمستقبل مظلم للبلاد.
وفي ظل غياب أي خطة بديلة، تتحول هذه الفجوة إلى كارثة ستؤثر على التنمية لعقود قادمة. فجيل كامل مهدد بأن يُولد في الحرب، ويعيش الحرب، ولا يعرف سواها.
وطن يئن والعالم يراقب
يبقى السؤال الحارق: إلى متى يمكن أن يصمد الشعب السوداني في وجه هذه الكارثة الإنسانية، بينما يزداد الصمت الدولي ثقلاً على كاهله؟
المشهد في السودان ليس مجرد حرب أهلية، بل مأساة إنسانية وجيوسياسية تتطلب تحركًا عاجلًا وشاملًا. فاستمرار الصراع دون حلول سيجعل من السودان بؤرة مستدامة للفوضى، تؤثر ليس فقط على شعبه، بل على المنطقة بأسرها.
إن الأمل لا يزال موجودًا، لكنه يتضاءل يومًا بعد يوم. ولا يمكن للسودان أن ينهض إلا إذا توفرت الإرادة الدولية الحقيقية، والضغط الإقليمي الفعّال، والدعم الشعبي المتواصل. فالشعوب يمكن أن تُهزم عسكريًا، لكنها لا تُكسر إلا إذا فُقد الأمل… وفي السودان، الأمل بات آخر ما تبقى.
67 / 100
نتيجة تحسين محركات البحث