في عالم يزداد ارتباطه بالتكنولوجيا والبيانات يوماً بعد يوم، لم يعد الذكاء الاصطناعي (AI) مجرد رفاهية تقنية أو اختراع خيالي كما كان يُصور في أفلام الخيال العلمي. بل أصبح أداة قوية تؤثر على القرارات السياسية، والتحولات الاقتصادية، وحتى على التوجهات الاجتماعية اليومية. وبينما ينشغل الرأي العام بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم أو الترفيه، تظهر في الخلفية قوى كبرى تتصارع على السيطرة، بصمت وذكاء شديد.
التحقيق التالي يرصد الكيانات العالمية التي أصبحت تتحكم فعليًا في مفاصل الذكاء الاصطناعي، ويكشف كيف ولماذا قد يشكّل هذا النفوذ تهديدًا صامتًا للدول النامية، والخصوصية الفردية، بل وحتى للديمقراطيات الغربية نفسها.
أربعة لاعبين في ساحة عملاقة
بحسب تقرير صدر هذا الأسبوع عن مركز الدراسات التكنولوجية في جامعة كامبريدج، فإن 90% من التطويرات المتقدمة في مجالات الذكاء الاصطناعي يقودها أربعة كيانات كبرى: الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي، وشركات التكنولوجيا الكبرى المعروفة باسم G-MAFIA (اختصارًا لغوغل، مايكروسوفت، أمازون، فيسبوك، آبل).
هذه الكيانات لا تملك فقط الموارد المالية، بل أيضًا الخوارزميات، والوصول إلى البيانات الضخمة، وبالطبع… السلطة الأخلاقية لصياغة مستقبل التكنولوجيا.
في الولايات المتحدة، تتصدر غوغل ومايكروسوفت السباق في مجال اللغات التوليدية، مثل ChatGPT وGemini، بينما تركز الصين على دمج الذكاء الاصطناعي في الصناعات الثقيلة والمراقبة الأمنية، حيث تملك شركات مثل Baidu وTencent نفوذاً واسعًا داخليًا وخارجيًا. الاتحاد الأوروبي، رغم تقدمه التشريعي، لا يزال متأخرًا من حيث الابتكار العملي مقارنةً بالآخرين.
البيانات: السلاح الأقوى
للسيطرة على الذكاء الاصطناعي، لا بد من السيطرة أولًا على ما يُعرف بـ”النفط الجديد”: البيانات. الشركات الكبرى تستهلك يوميًا ما يعادل مليارات نقاط البيانات من سلوكيات المستخدمين، استجاباتهم، تفضيلاتهم، وحتى مشاعرهم.
وهنا تظهر مشكلة جوهرية: هل يدرك المستخدم العادي أن كل ما يفعله على الإنترنت يُستخدم لاحقًا لتدريب خوارزميات قد تؤثر على قراراته؟ هل يعرف أن هذه البيانات تُباع، أو تُنقل، أو تُستخدم لأغراض لا يُفصح عنها أبدًا؟ الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من الذكاء الاصطناعي الذي يتفاعل معنا يوميًا قد تم “تغذيته” من حياتنا نحن، دون إذن مباشر أو فهم كافٍ للعواقب.
من يضع القوانين؟
ربما كانت أوروبا هي الصوت الوحيد الذي يحاول فرض تشريعات صارمة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، كما هو الحال مع “قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي” الذي دخل حيز التنفيذ مؤخرًا، ويصنّف تطبيقات الذكاء الاصطناعي حسب خطورتها. لكن في المقابل، لا يبدو أن الشركات الأمريكية الكبرى تُبدي رغبة جدية في تقييد نفسها، بل تستمر في تطوير أنظمتها بوتيرة غير مسبوقة.
أما الصين، فالقوانين موجودة لكنها تخدم الدولة لا المواطن. فكل تطبيق جديد في الذكاء الاصطناعي يخضع لرقابة مشددة، ويُستخدم بالأساس لأغراض الأمن القومي والسيطرة المجتمعية، وهو ما يجعل “الذكاء الاصطناعي الصيني” أقرب إلى نموذج شمولي رقمي.
الدول النامية: متفرج أم ضحية؟
التحقيقات تشير إلى أن الدول النامية، بما فيها العديد من الدول العربية، ليست فقط متأخرة عن الركب، بل قد تتحول إلى أسواق استهلاكية أو ميادين اختبار للمنتجات الذكية دون ضمانات أو حماية تشريعية. في كثير من هذه الدول، لا توجد قوانين واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، ولا توجد لجان رقابية قادرة على مساءلة الشركات الأجنبية.
على سبيل المثال، أُطلقت خلال العام الماضي عدة أدوات ذكاء اصطناعي تعليمية وطبية في بعض الدول الإفريقية ضمن برامج تجريبية، لكن دون مراجعة علمية أو رقابة مستقلة. وهو ما يفتح الباب أمام التجسس، والانتهاكات الأخلاقية، وحتى التأثير السياسي غير المباشر.
الذكاء الاصطناعي العسكري: المستقبل المظلم
بعيدًا عن الواجهة الإعلامية، يجري تطوير عدد كبير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجهة للاستخدام العسكري. تقارير غير رسمية أشارت إلى أن جيوشًا عدة بدأت بالفعل باستخدام طائرات دون طيار مدعومة بالذكاء الاصطناعي في مهام مراقبة وتنفيذ ضربات محددة دون تدخل بشري مباشر.
الأسئلة الأخلاقية هنا تتضاعف: من يتحمّل المسؤولية إذا قتل الذكاء الاصطناعي شخصًا بريئًا؟ هل يجوز منح آلة الحق في اتخاذ قرار بإنهاء حياة إنسان؟ وإذا أصبحت الخوارزميات تُحدد العدو من الحليف، فمن يضمن أنها لن تُخطئ؟
خلاصة التحقيق: سباق بلا ضوابط
الواقع يشير إلى أن العالم يعيش سباقًا محمومًا لتطوير الذكاء الاصطناعي، لكن هذا السباق يتم في كثير من الأحيان دون قوانين واضحة، ولا خطوط حمراء. والأخطر من ذلك، أن الفجوة بين الدول المسيطرة وبقية العالم تزداد اتساعًا، ما يهدد بتكريس هيمنة تكنولوجية غير مسبوقة.
إن مستقبل البشرية، إلى حد كبير، لم يعد يُرسم في أروقة السياسة أو مراكز المال وحدها، بل في مختبرات الذكاء الاصطناعي، حيث تُصاغ الخوارزميات التي ستُحدد قريبًا كيف نعيش، نعمل، نتعلم، ونُحكم.