قراءة نشاط الدماغ تدين هندية في جريمة قتل

في حادثة غير مسبوقة هزّت الأوساط القضائية والعلمية في آن واحد، أصدرت محكمة هندية حكمًا بالإدانة ضد فتاة شابة تُدعى “أ.ش”، استنادًا إلى ما يُعرف بـ”قراءة نشاط الدماغ”. القضية التي تعود إلى عام 2008 أصبحت اليوم مرجعًا قانونيًا وأخلاقيًا معقدًا يُطرح على طاولات النقاش بين القضاة، العلماء، والفلاسفة على حد سواء.
🧠 خلفية الجريمة: عندما يصبح الدماغ شاهدًا
القصة بدأت حين عُثر على خطيب “أ.ش” ميتًا، بعد تناوله مشروبًا تبين لاحقًا أنه يحتوي على مادة سامة. ومع اختفاء الأدلة التقليدية التي تربط الفتاة مباشرة بالجريمة (لا بصمات، لا شهود، لا أدلة مادية واضحة)، واجهت السلطات مأزقًا حقيقيًا في توجيه الاتهام أو إثباته.
في محاولة جريئة لحل اللغز، لجأ الادعاء إلى اختبار حديث نسبيًا يُعرف بـاختبار استجابات الدماغ العصبية، باستخدام تقنية EEG (تخطيط كهربائية الدماغ). هذه التقنية تُستخدم عادة في المستشفيات لقياس النشاط الكهربائي في الدماغ، لكنها هنا استُخدمت لأغراض جنائية: تسجيل ردود فعل دماغ المتهمة حين تُعرض عليها تفاصيل الجريمة.
📊 كيف تعمل التقنية؟
يعتمد اختبار EEG على فرضية بسيطة ولكن مثيرة: عندما يُعرض على شخص ما معلومة يعرفها بالفعل (تفصيل خاص بالجريمة مثلاً)، فإن مناطق معينة في دماغه تنشط بطريقة مختلفة عما لو كانت المعلومة جديدة تمامًا بالنسبة له. وبناءً على هذه الاستجابة، يُمكن استنتاج ما إذا كان الشخص على علم بالجريمة أم لا.
في حالة “أ.ش”، لاحظ العلماء أن دماغها أظهر استجابات نشطة حين تم عرض كلمات مثل “السم”، “المقهى”، و”الموعد الأخير”، وهي تفاصيل لم تُنشر في وسائل الإعلام بعد الجريمة. هذا ما دفع الادعاء إلى اعتبار ذلك دليلاً على أنها كانت مطلعة على كيفية حدوث الجريمة، وبالتالي فهي متورطة.
⚖️ الشرخ القانوني: بين الإثبات والمعرفة
لكن المسألة لم تكن بهذه البساطة. فريق الدفاع طعن بشدة في شرعية هذا الدليل، وطرح أسئلة بالغة الأهمية:
- هل مجرد معرفة تفاصيل جريمة تعني بالضرورة <strongالمشاركة في ارتكابها؟
- هل يمكن اعتبار استجابات الدماغ دليلًا قاطعًا دون أن تكون هناك أدلة مادية مباشرة؟
- وماذا لو كانت المعلومات قد وصلت إلى المتهمة عبر مصادر غير معروفة؟
هذه الأسئلة دفعت المحكمة العليا الهندية لاحقًا إلى مراجعة القضية، والحد من استخدام هذا النوع من الأدلة مستقبلاً ما لم يكن بموافقة صريحة وواضحة من المتهم.
🧬 العلم في قفص الاتهام: هل نثق بالدماغ أكثر من الإنسان؟
من وجهة نظر علمية، يُعتبر EEG أداة واعدة لكنها لا تزال محاطة بالكثير من الجدل. فبينما يرى بعض الباحثين أن قراءة الدماغ قد تُحدث ثورة في عالم التحقيقات الجنائية، فإن آخرين يحذرون من أن هذه التقنية:
- قد تُفسّر خطأً بسبب التداخل بين استجابات الدماغ للعاطفة والمعرفة.
- تُخضع الإنسان لفحص قسري في أكثر مناطق خصوصيته: عقله وذكرياته.
- قد تُستخدم في سياقات غير أخلاقية، مثل إجبار المتهم على الخضوع للاختبار.
أحد علماء الأعصاب البارزين قال: “الدماغ ليس جهاز تسجيل رقمي، بل كائن معقد يتفاعل مع السياق والعاطفة والخلفية الشخصية. لا يمكنك ترجمة كل استجابة إلى اعتراف مباشر”.
🌍 أصداء عالمية وتحديات ثقافية
أثارت القضية صدى دوليًا، خاصة بين مناصري الحقوق المدنية في أوروبا وأمريكا. في حين يرى البعض أن استخدام قراءة الدماغ قد يساهم في الكشف عن الجريمة، يرى آخرون أنه يُشكّل خطرًا داهمًا على الحرية الشخصية وحق الصمت.
تخيل أن تُجبر على ارتداء جهاز يقرأ ذاكرتك، ويُدينك بناء على استجابة كهربائية لمعلومة ربما سمعتها عرضًا. هل هذا عدل؟
ظهرت منظمات تطالب بـ”ميثاق دولي” يضبط استخدام تقنيات قراءة الدماغ في التحقيقات، معتبرة أن حدود الأخلاق يجب أن تسبق حدود التكنولوجيا.
🧭 الحقيقة بين العلم والعدالة
اليوم، وعلى الرغم من مرور سنوات على الحادثة، لا تزال حالة “أ.ش” تُستخدم كحالة دراسية في الجامعات ومراكز الأبحاث. البعض يرى أنها كشفت إمكانية جديدة لفهم الجريمة، والبعض الآخر يرى أنها تجاوزت الخط الأخلاقي دون وعي.
المحاكم قد لا تكون مهيأة بعد للتعامل مع “الشهادة العصبية”، والعقول ليست أدلة بحد ذاتها، بل مجرد مؤشرات. والعدالة، في نهاية المطاف، لا يجب أن تُبنى فقط على إشارات كهربائية، بل على فهم أعمق للإنسان ككائن حر، قابل للخطأ والتأويل.
💡 خلاصة المقال: أيّ مستقبل ينتظر العدالة؟
ما حدث في محكمة هندية ليس مجرد سابقة غريبة، بل مؤشر على ما قد يصبح شائعًا خلال العقود القادمة. ومع تقدم تقنيات مثل fMRI وEEG، وظهور تخصصات مثل “النيورولو”، يجب أن نسأل أنفسنا:
- هل سنسمح بتجريم الأشخاص بناءً على إشارات دماغية غير ملموسة؟
- أين تبدأ الحماية القانونية للإنسان، وأين تنتهي حرية البحث العلمي؟
- وهل نحن مستعدون فعلًا لـ”محاكم تُصغي إلى ما لا يُقال”؟
ربما تكون الإجابة غير واضحة الآن، لكن المؤكد أن علينا توخي الحذر قبل أن نُدين إنسانًا لأنه فقط… فكّر في شيء ما.
شارك هذا المقال إذا كنت ترى أن العدالة لا يجب أن تكون مجرد قراءة كهربائية لما يدور في الأذهان.