لماذا يشعر المواطن العربي أن الدولة لا تراه؟

يتحول هذا الشعور من تساؤل عابر إلى قناعة راسخة مفادها أن المواطن بات “غير مرئي” في نظر مؤسسات الدولة، إلا في مناسبات محددة: حين يُطلب منه دفع الضرائب، أو الوقوف في صف طويل لتحديث بيانات، أو الالتزام بالصمت حيال أي أمر لا يفهمه.
حين تصبح الدولة بعيدة عن نبض الناس
الدولة بمفهومها الحقيقي ليست مجرد جهاز إداري أو سلطة تنفيذية. إنها كيان يمثل الناس، يُحسّ بهم، ويخاطبهم بلغتهم. لكن ما يحدث في كثير من الدول العربية اليوم هو الانفصال التام بين من يحكم ومن يُحكم. قرارات تُتخذ من فوق، وقوانين تُطبّق بانتقائية، بينما يشعر المواطن أنه خارج الحسابات.
الأزمة ليست فقط في السياسات، بل في غياب الحوار. الدولة التي لا تستشير الناس، لا تسمع نبضهم، ولا ترى ضيقهم، تخلق جدارًا من العزلة النفسية بينهم وبينها. والأسوأ من كل ذلك، أن كثيرًا من المسؤولين يتحدثون عن “الناس” وكأنهم فئة منفصلة عنهم، لا كأنهم يمثلونهم.
الإعلام الرسمي.. منبر بلا آذان
يُفترض بالإعلام الرسمي أن يكون مرآة الواقع، لكنه في كثير من الأحيان يتحول إلى أداة تزييف. حين يعيش الناس أزمات معيشية قاسية، ثم يرون الإعلام يُبشرهم بـ”النهضة الكبرى” و”المشروعات العملاقة”، يشعرون أن هناك واقعين مختلفين: واقع على الأرض، وواقع في النشرات الإخبارية.
هذا التناقض لا يُعزز الثقة، بل يُعمّق الإحساس بالغربة داخل الوطن. المواطن البسيط لا يريد إعلامًا يُضخّم الإنجازات أو يُنكر الأزمات، بل إعلامًا يطرح أسئلته، ويعكس همومه، ويتحدث بلسانه.
الخدمات العامة.. حيث تختبر الدولة ثقة الناس
العلاقة بين الدولة والمواطن تتجلى في أوضح صورها داخل المرافق العامة: المستشفيات، المدارس، مراكز الشرطة، والمصالح الحكومية. عندما يذهب المواطن إلى مستشفى عام فلا يجد سريرًا لابنته، أو يقف في طابور البريد ثلاث ساعات بلا نتيجة، يشعر بأنه غير مرئي.
الاهتمام بالمرافق ليس ترفًا، بل هو واجب. لأنه حين تُعامل الناس كأرقام، لا كأرواح، تنهار الثقة، وتتحول الدولة إلى آلة صمّاء لا تستشعر الألم ولا تفهم الاحتياج.
العدالة.. كلمة لا تعني الجميع
من أكثر المشاهد قسوة أن يرى المواطن القوانين تُطبّق فقط على الضعفاء، بينما يفلت الأقوياء والمحسوبون على النفوذ من المحاسبة. العدالة المنتقاة تُدمّر أي شعور بالمواطنة، لأنها تجعل الناس يشعرون أن الدولة لا تحميهم، بل تُجامل من يمتلك القوة.
المساواة أمام القانون ليست شعارًا جميلًا، بل حجر الأساس في بناء الثقة. وعندما يفقد المواطن هذا الشعور، يبدأ بالتراجع الداخلي: يكفّ عن الحلم، ويكفّ عن الإيمان، ويبدأ بالانسحاب الصامت من وطن لا يشعر به.
غياب صوت الناس.. الفراغ الذي تملؤه الفوضى
في مجتمعات لا توجد فيها قنوات حقيقية لسماع الناس، يغيب صوت المواطن ويغيب معه المنطق. لا إعلام مستقل، ولا برلمان فعّال، ولا مجالس محلية تعبّر عن الاحتياجات اليومية. هنا، يصبح الصمت هو اللغة الوحيدة، لكنه صمت يحمل في داخله بركانًا.
تاريخنا العربي الحديث مليء بالأمثلة التي تجاهلت فيها الأنظمة صرخات شعوبها، ظنًا أن الصمت يعني الرضا. حتى جاءت لحظة الانفجار، وكانت الكلفة فادحة على الجميع.
هل من سبيل لإعادة التواصل؟
- إشراك المواطن في القرار: لا يمكن لأي دولة أن تحكم شعبًا لا تستمع له. المشاركة المجتمعية، عبر حوارات صريحة ومجالس تشريعية فاعلة، ضرورة لا خيار.
- تبسيط الخدمات العامة: عندما ينجز المواطن معاملته بكرامة، يشعر أن الدولة تحترمه.
- إعلام يعكس الواقع: الإعلام الصادق لا يثير الفوضى، بل يُطفئها. المطلوب هو لغة صادقة، لا دعائية.
- قانون عادل للجميع: لا أحد فوق القانون. هذا هو الخط الفاصل بين الدولة العادلة والدولة القمعية.
كيف يشعر المواطن أنه مرئي؟
أن يشعر المواطن بأنه مرئي لا يعني فقط أنه يحصل على حقوقه، بل أن يُعامل باحترام في كل خطوة: من الموظف الذي يبتسم له، إلى القاضي الذي لا يخشى مناصب خصومه، إلى الوزير الذي يزور حيّه دون إعلام مُسبق.
الرؤية تبدأ من التفاصيل الصغيرة: لافتة واضحة، معاملة راقية، شفافية في المعلومات، وضمان أن الشكوى لا تذهب إلى سلة المهملات.
الدولة التي ترى مواطنيها، لا تخافهم
في النهاية، لا يريد المواطن العربي المعجزات. لا يريد قصورًا ذهبية، ولا مشاريع فضائية. هو فقط يريد أن يُعامل كإنسان: أن يُسمع صوته، أن تُرى همومه، أن يشعر بأن دولته تحميه، لا أن تُقصيه.
الدولة التي تراهن على الخوف تخسر شعبها. أما الدولة التي ترى الناس، فتكسبهم إلى الأبد.