عاجل

حين تتحول الإبادة الجماعية في غزة إلى “سياحة الصمود” في إسرائيل

بينما يعاني قطاع غزة من مشهد كارثي يعجز اللسان عن وصفه، وتستمر آلة الحرب الإسرائيلية في استهداف المدنيين بلا هوادة، برز مشهد صادم من الجانب الآخر: سياح يرتدون قبعات واقية، يلتقطون الصور من خلف الحدود، يراقبون النيران تتصاعد، ويستمتعون بمنظر مدينة تُقصف كما لو كانت عرضًا بصريًا أو لوحة فنية.

هذا التحول من فاجعة إلى “فرجة” يسلّط الضوء على تشوهات أخلاقية عميقة تتجلى في طريقة تعاطي بعض الفئات داخل إسرائيل مع الحرب الجارية على قطاع غزة، ويطرح تساؤلات ملحة: كيف أصبحت الإبادة الجماعية مادة سياحية؟ وكيف يُحتفى بما يفترض أن يكون مصدر خزي إنساني عالمي؟

من الخطوط الأمامية… إلى شرفة للفرجة

شهدت الحدود الشرقية لقطاع غزة توافد مجموعات من الإسرائيليين والسياح لمشاهدة القصف الجوي والبري على غزة، في مشهد أثار استياء الرأي العام العالمي، حيث جلس البعض على الكراسي البلاستيكية، يحملون المناظير والمشروبات، يتابعون القصف وكأنهم في مهرجان.

التقارير الصحفية وشهادات النشطاء وثّقت هذه المشاهد التي نُشرت عبر مواقع التواصل، ليبدأ مفهوم جديد بالظهور: “سياحة الصمود”. وهو توصيف يُستخدم داخل إسرائيل للإشارة إلى زيارات “تضامنية” مع سكان المستوطنات المحاذية لغزة، لكن الواقع يؤكد أنها تحولت إلى نوع من التطبيع مع العنف ومشاهد الإبادة، بل والتسلية بها.

عندما يتحول الألم إلى عرض جانبي

في عالم ما بعد الحقيقة، يبدو أن الألم الفلسطيني لم يعد يُرى كألم، بل كجزء من سيناريو دائم يُعرض على شاشات الأخبار أو خلف الكاميرات، ويتم استهلاكه بنفس آليات مشاهدة الأفلام أو مباريات كرة القدم. لم تعد مشاهد الموت والدمار تثير الصدمة، بل صارت تُستخدم كخلفية “ملحمية” لصورة سيلفي أو فيديو قصير يجمع المشاهدات على تيك توك أو إنستغرام.

وفي هذا السياق، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تقارير عن شركات سياحية تقدم جولات على حدود غزة، يرافقها مرشدون يشرحون “التهديد الأمني الذي تشكله حماس”، في محاولة لتسويق الحرب كجزء من السردية الأمنية التي اعتادت إسرائيل أن تقدمها للعالم.

الإبادة الجماعية تحت عدسة السياحة

الوضع في غزة لا يحتاج إلى توصيف إضافي: أكثر من 35 ألف شهيد منذ بداية الحرب، أغلبيتهم من النساء والأطفال، آلاف الجرحى، مستشفيات مدمرة، وبنية تحتية منهارة. ومع كل هذا، لا يزال الحديث يدور في بعض الأوساط الغربية عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بينما تُغض الأبصار عن السياق الحقيقي: احتلال طويل الأمد، وحصار خانق، وعدوان متواصل ضد شعب أعزل.

في هذا الإطار، تتحول “سياحة الصمود” إلى شكل من أشكال التطبيع مع الجريمة، فهي لا تكتفي بتبرير العدوان بل تحتفل به، وتُلبسه ثوب الفخر القومي، وهو ما يمثل تشويهًا سافرًا للقيم الإنسانية والأخلاقية، ويُعيد إلى الأذهان ممارسات مشابهة في مراحل مظلمة من التاريخ، حين كان التعذيب يُشاهد علنًا كأداة ردع واستعراض للقوة.

من التبلد الأخلاقي إلى الشراكة في الجريمة

الصورة التي يرسمها هذا المشهد ليست فقط عن طرف يقتل وآخر يُقتل، بل عن عالم متواطئ أو صامت، وعن أفراد يختارون مشاهدة الإبادة وكأنهم يشاهدون عرضًا بصريًا. وهذه ليست مجرد “سلوكيات فردية” معزولة، بل انعكاس لبنية نفسية وسياسية تسمح بمثل هذا الانفصال عن المعاناة الإنسانية.

يرى بعض المحللين أن هذا التحول في التفاعل مع الحرب يكشف عن تبلد أخلاقي خطير، حيث يُعاد تعريف المعاناة بحسب هوية الضحية. فبينما تملأ صور الحيوانات المعذبة الشاشات وتثير تعاطف الملايين، لا تجد آلاف الجثث الفلسطينية نفس الاهتمام، بل تتحول إلى “مشهدية” تُستهلك ضمن سردية ترفيهية أو سياسية.

متى تتحرك الإنسانية؟

في مواجهة هذا الواقع المرير، تبرز ضرورة إعادة التفكير في دور الإعلام العالمي، وفي مسؤولية المجتمعات تجاه ما يُرتكب باسمها أو بصمتها. فلا يمكن للضمير الإنساني أن يظل متواطئًا في صمته، بينما تُحرق مدن كاملة ويُشرد ملايين تحت أنقاض منازلهم.

المشهد على حدود غزة ليس فقط صورة لواقع الحرب، بل مرآة لمجتمع فقد بوصلته الأخلاقية، وتحول فيه الجرح المفتوح إلى معرض ترفيهي. وهذه ليست مأساة الفلسطينيين وحدهم، بل مأساة العالم الذي يُصر على الكيل بمكيالين، ويُصنّف الضحايا بناء على جوازات سفرهم أو عرقهم أو دينهم.

قد حان الوقت لأن تُعيد الإنسانية تعريف أولوياتها. أن تفهم أن الكاميرا ليست أداة محايدة، وأن الصورة قد تكون طعنة في الضمير أو صرخة للنجاة. وبين هذين المعنيين، يقرر كل مشاهد: هل يكون جزءًا من الحل… أم مجرد متفرج على الجريمة؟

عدد المشاهدات: 8

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *