ليبيا حين اندلعت شرارة الثورة الليبية في فبراير 2011، كانت البلاد تقف على مفترق طرق حاسم، بين وعود الحرية والتغيير، وإرث ثقيل من الاستبداد والتهميش. أسقطت الثورة نظام العقيد معمر القذافي بعد أكثر من أربعة عقود من الحكم الحديدي، لكن ما تلا ذلك لم يكن حلم الدولة المدنية الديمقراطية، بل سنوات من الفوضى والصراع والانقسام. في كتابه الجديد، يرصد الباحث السياسي الليبي (اسم المؤلف إن توفر) هذا التحول الجذري، مقدمًا قراءة معمقة لمآلات ليبيا بعد سقوط القذافي، في محاولة لفهم أسباب تعثر الانتقال السياسي وتفجر الحرب الأهلية.
البداية: الثورة التي وعدت بالكثير
يرى الكاتب أن الثورة الليبية لم تكن مجرّد انتفاضة ضد دكتاتور، بل انفجارًا عاطفيًا وسياسيًا ضد عقود من الإقصاء والفساد والقمع المؤسسي. خلال أيام الثورة الأولى، بدا أن الليبيين متحدون خلف هدف واحد: إنهاء حكم القذافي وإقامة دولة ديمقراطية تعيد للمواطن مكانته. لكن هذا التوحد لم يلبث أن تفتت مع غياب قيادة سياسية موحدة، وانهيار مؤسسات الدولة، وظهور الميليشيات المسلحة كقوى فعلية على الأرض.
يناقش الكاتب كيف أن غياب إطار انتقالي متماسك، كما حدث مثلًا في تونس أو حتى مصر، جعل من الصعب تحويل الثورة إلى مشروع سياسي مستقر. المجلس الوطني الانتقالي، الذي تشكل عقب سقوط النظام، واجه تحديات هائلة في ضبط الأمن، وتنظيم العملية السياسية، والتوفيق بين مصالح القبائل والمدن والمناطق المختلفة.
السلاح بدل السياسة: الميليشيات تملأ الفراغ
من أبرز ما يرصده الكتاب في هذا السياق، هو الصعود السريع للميليشيات المسلحة بعد سقوط النظام، حيث ملأت هذا الفراغ الخطير في السلطة. لم تكن هذه المجموعات متجانسة، بل تنتمي لمدن، قبائل، وتيارات أيديولوجية متعددة، لكل منها مصالحها ورؤيتها الخاصة. البعض نشأ من رحم الثورة، والبعض الآخر وُلد من رحم الفوضى.
ويوضح الكاتب أن هذه الميليشيات لم تكتفِ بالوجود الأمني، بل بدأت تتدخل في السياسة، وتفرض أمرًا واقعًا على الحكومات المتعاقبة، بل وتسهم في تقويضها عند اللزوم. ما كان يُفترض أن يكون دولة مؤسسات، تحوّل شيئًا فشيئًا إلى دولة سلطات موازية، تتنازع فيها الميليشيات سلطة السلاح مع سلطة الدولة الرسمية.
فشل النخبة السياسية: ضياع فرصة التأسيس
يركّز المؤلف على إخفاق النخب السياسية الليبية في اغتنام فرصة ما بعد الثورة، لتأسيس دولة قادرة على استيعاب الجميع. يشير إلى أن الانقسامات الأيديولوجية، والصراعات الجهوية، وتدخلات القوى الخارجية، كلها ساهمت في تعميق الأزمة. فبدلًا من بناء عقد اجتماعي جديد، دخلت البلاد في دوامة من الانتخابات الجزئية، والحكومات المتعاقبة، والدساتير المؤقتة التي لم تُكتب أو تُعتمد.
ويخصص الكاتب فصولًا لتحليل الصراع بين المؤتمر الوطني العام وحكومة طبرق، وكذلك الانقسام اللاحق بين حكومة الوفاق الوطني وحكومة الشرق المدعومة من البرلمان وقوات خليفة حفتر. كل ذلك جعل من ليبيا ميدانًا مفتوحًا لصراعات داخلية مستعصية على الحل، عززها التدخل الدولي والإقليمي.
التدخل الخارجي: تعقيد الأزمة بدل حلها
في أحد أبرز فصول الكتاب، يناقش المؤلف دور التدخل الدولي في ليبيا، الذي بدأ بغطاء أممي لدعم الثورة وحماية المدنيين، قبل أن يتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أطراف دولية وإقليمية متنازعة. من دعم بعض الدول لقوى الشرق، إلى دعم أخرى لحكومة طرابلس، وجد الليبيون أنفسهم بين مطرقة المصالح الإقليمية وسندان الانقسام الداخلي.
ويخلص المؤلف إلى أن التدخل الخارجي لم يسهم في بناء الاستقرار، بل زاد المشهد تعقيدًا، وعمّق من هشاشة الدولة الليبية، وأعاق أية محاولات جادة للتسوية السياسية الوطنية.
الشعب الضحية: بين التهجير والانهيار الاقتصادي
لا ينسى الكتاب أن يرصد الثمن الباهظ الذي دفعه المواطن الليبي العادي. من تهجير داخلي ونزوح إلى خارج البلاد، إلى انهيار البنية التحتية، وتوقف الخدمات، وتفشي الفساد، وغياب الأمن، خسر الليبيون الكثير من أحلامهم التي خرجوا من أجلها إلى الشوارع في 2011.
ويشير المؤلف إلى أن الجيل الجديد من الليبيين الذي نشأ بعد الثورة لم يعرف يومًا من الاستقرار الحقيقي، بل ترعرع في بيئة من الانقسام والريبة وغياب الأفق. ومع استمرار الأوضاع على ما هي عليه، يخشى الكاتب أن تُعاد صياغة مفهوم “الدولة” لدى هذا الجيل بمعايير مختلفة تمامًا عما كان يُطمح إليه قبل 14 عامًا.
خاتمة تمهيدية: بداية لسلسلة أسئلة
في هذا الجزء الأول من الكتاب، لا يقدّم المؤلف حلولًا سحرية، بل يعرض تشريحًا موضوعيًا لأسباب الانهيار الذي أصاب مشروع الثورة الليبية. ويسعى من خلال قراءته المعمقة إلى طرح الأسئلة الصعبة التي يجب أن تُطرح: هل كان سقوط القذافي مقدمة حتمية لهذا الانهيار؟ أم أن فشل النخبة هو السبب؟ وهل لا تزال هناك فرصة لبناء ليبيا جديدة؟
في الأجزاء القادمة، يعدنا الكاتب بالغوص أكثر في تفاصيل المراحل التالية من الأزمة الليبية، وكيف تحوّلت ليبيا إلى ساحة صراع دولي، وأين تكمن فرص الإنقاذ إن وُجدت.