في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة بين القوى العظمى، يتساءل المراقبون: هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة؟ فالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين تمر بمرحلة دقيقة تتسم بالتوترات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ويبدو أن العالم يشهد إعادة تشكيل خارطة التحالفات الدولية بطريقة تعيد إلى الأذهان مشهد الانقسام العالمي بين القطبين خلال القرن العشرين.
تعود نغمة الحرب الباردة إلى الواجهة مع تزايد الصدامات غير المباشرة بين واشنطن وبكين على جبهات عدة، أبرزها بحر الصين الجنوبي، تايوان، التنافس التكنولوجي، إضافة إلى تحالفات اقتصادية جديدة في آسيا وإفريقيا. هذا التصعيد المتعدد الأوجه يجعل من الصعب تجاهل التشابه المتزايد مع فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكن مع اختلافات في السياقات والوسائل والأدوات.
فمن الناحية الاقتصادية، تخوض الصين والولايات المتحدة سباقًا محمومًا للسيطرة على التكنولوجيا الفائقة، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي، شبكات الجيل الخامس، وأشباه الموصلات. وقد فرضت واشنطن في السنوات الأخيرة قيودًا مشددة على صادرات التكنولوجيا إلى الصين، لا سيما تلك المتعلقة بالشرائح الإلكترونية الدقيقة التي تُستخدم في الصناعات العسكرية والمدنية المتقدمة. وردّت بكين بتكثيف الاستثمارات في البحث والتطوير، مدعومة بخطط حكومية مثل “صُنع في الصين 2025” التي تهدف لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي.
على الجانب العسكري، ازدادت المناورات الأميركية في المحيط الهادئ، وخاصة في المناطق القريبة من تايوان، ما تعتبره الصين استفزازًا مباشرًا لسيادتها. في المقابل، قامت الصين بتوسيع وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، وتكثيف طلعاتها الجوية حول الجزيرة. وتشير تقارير الاستخبارات الأميركية إلى أن بكين قد تضع سيناريوهات لاستخدام القوة لفرض واقع جديد في المنطقة بحلول 2027، وهي السنة التي تصادف الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي.
سياسيًا، تدور معركة التأثير في المحافل الدولية أيضًا. فبينما تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها في المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، تبذل واشنطن جهودًا مضادة للحفاظ على هيمنتها التقليدية. وقد بدت الانقسامات جلية خلال جلسات مجلس الأمن الأخيرة، حيث استخدمت بكين وروسيا حق النقض ضد مشاريع قرارات أميركية، فيما قامت واشنطن بحشد تحالفات جديدة مثل “AUKUS” و”QUAD” لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا والمحيط الهادئ.
الجانب الأكثر تعقيدًا هو الحرب الناعمة المتمثلة في الإعلام والدبلوماسية والثقافة. فالصين عززت قنواتها الإعلامية العالمية الناطقة باللغات الأجنبية، واستثمرت بشكل كبير في مبادرات “الحزام والطريق” التي تجمع بين التمويل والبنية التحتية والدبلوماسية الثقافية، مقابل محاولات أميركية لتطويقها من خلال دعم الحركات الديمقراطية والمعارضة في بعض الدول. وظهر هذا الصراع بوضوح في إفريقيا، حيث تتنافس واشنطن وبكين على كسب الحلفاء من خلال المساعدات، والاستثمارات، والشراكات الأمنية.
وفي عالم متعدد الأقطاب، لا يبدو أن الدول الكبرى وحدها هي المتأثرة. فدول كثيرة تجد نفسها مضطرة للوقوف في أحد المعسكرين أو محاولة اللعب على الحبال للحفاظ على مصالحها. فالهند، على سبيل المثال، رغم تحالفها الاستراتيجي مع الغرب، لا تزال تحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا والصين في بعض الملفات. وكذلك دول الشرق الأوسط، التي باتت تُعيد النظر في تحالفاتها التقليدية لصالح انفتاح أوسع على الصين، التي أصبحت الشريك التجاري الأول لكثير من هذه الدول.
ويرى المحللون أن الصراع الحالي يختلف عن الحرب الباردة التقليدية في أنه لا يتخذ طابعًا أيديولوجيًا صارخًا كما كان الحال مع الشيوعية والرأسمالية، بل هو صراع نفوذ اقتصادي وتكنولوجي وثقافي، تديره أدوات أكثر تعقيدًا مثل العقوبات الاقتصادية، وسلاسل الإمداد، وحروب البيانات.
في المقابل، تحذر مراكز الأبحاث من أن التصعيد المستمر دون آلية لاحتواء الخلافات قد يُفضي إلى مواجهات غير محسوبة، خصوصًا في مناطق التماس مثل تايوان أو بحر الصين الجنوبي. ويطالب خبراء العلاقات الدولية بضرورة استحداث قنوات تواصل مستقرة بين القوتين العظميين، على غرار “الخط الساخن” الذي كان قائمًا بين واشنطن وموسكو خلال الحرب الباردة، لتفادي الانزلاق نحو صراع شامل.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2026، يتوقع مراقبون أن تصبح الصين محورًا أساسيًا في الخطاب السياسي الداخلي الأميركي، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد إضافي في المواقف، خاصة من قبل التيارات المتشددة في الكونغرس. في الوقت ذاته، تستعد الصين لمؤتمر الحزب الشيوعي في 2027، حيث يسعى الرئيس شي جين بينغ لترسيخ إرثه كقائد قادر على إعادة بلاده إلى صدارة المشهد الدولي.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن العالم يقترب من مرحلة “ما بعد الأحادية القطبية”، حيث لا تملك قوة واحدة القرار وحدها، بل تتنازع عدة أطراف على صياغة قواعد النظام الدولي الجديد. فهل نحن أمام نسخة أكثر تعقيدًا من الحرب الباردة، أم أن النظام العالمي يتجه نحو توازن قوى مرن ومتعدد الأقطاب؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن سباق النفوذ بين واشنطن وبكين قد أعاد تشكيل السياسات، وأشعل فتيل منافسات ستبقى تؤثر في مجريات العقد القادم.