عاجل

واقع فرص العمل وعقود التوظيف: في ظل التحول الرقمي وسوق العمل العالمي

يشهد سوق العمل العالمي تحولات جوهرية خلال السنوات الأخيرة، بفعل التقدم التكنولوجي، وتنامي دور الذكاء الاصطناعي، وتغير طبيعة الأعمال التقليدية. هذه التغييرات أدت إلى إعادة تشكيل فرص العمل، ليس فقط من حيث نوعية الوظائف، بل أيضًا من حيث طبيعة العقود التي تحكم العلاقة بين العامل وصاحب العمل. وبينما تزداد فرص العمل عن بُعد والعمل الحر (Freelancing)، يتغير مفهوم “الوظيفة المستقرة” بشكل ملحوظ، وتطرح هذه التحولات تحديات كبرى للأفراد والحكومات على حد سواء.

تُظهر تقارير حديثة صادرة عن منظمة العمل الدولية أن نحو 60% من الوظائف التي ستُخلق خلال العقد المقبل ستكون ذات طابع رقمي أو تعتمد على مهارات رقمية. ويعني ذلك أن فرص العمل لم تعد محصورة في القطاعات التقليدية كالتعليم أو الصحة أو التصنيع، بل انتقلت إلى مجالات ناشئة مثل تحليل البيانات، الأمن السيبراني، تطوير البرمجيات، والتسويق الرقمي. في هذا السياق، أصبح امتلاك المهارات الرقمية شرطًا رئيسيًا للحصول على فرصة عمل جيدة ومستقرة.

ومع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في مختلف القطاعات، تغيرت أيضًا أشكال عقود التوظيف. ففي السابق، كانت العقود الدائمة (عقود العمل غير محددة المدة) هي السائدة، وتوفر للموظف استقرارًا وظيفيًا وتأمينًا صحيًا واجتماعيًا. لكن اليوم، باتت العقود المؤقتة، والعقود بنظام العمل الجزئي، والعقود القائمة على المهام (Gig Contracts)، هي الأكثر شيوعًا في عدد من الدول، خاصة في الاقتصادات المتقدمة.

في العالم العربي، بدأت هذه التحولات تلقي بظلالها على سوق العمل، خصوصًا مع انتشار منصات العمل الحر مثل “مستقل”، “خمسات”، و”فريلانسر”. وتوفر هذه المنصات فرصًا هائلة للشباب الباحثين عن عمل، لكنها في الوقت ذاته تطرح إشكاليات تتعلق بعدم وجود عقود رسمية تضمن الحقوق، أو نظم تأمينات تحمي العامل في حالات المرض أو توقف الطلب على خدماته. ويؤكد خبراء الاقتصاد أن هذا النمط من العمل يحتاج إلى إطار قانوني واضح ومتطور، يوازن بين مرونة العمل وحماية الحقوق.

من التحديات الراهنة أيضًا مسألة فجوة المهارات. إذ يواجه الكثير من الشباب صعوبة في إيجاد عمل بسبب عدم توافق مهاراتهم مع متطلبات السوق الحالية. ووفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن 40% من المهارات المطلوبة في سوق العمل ستتغير خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعني أن التدريب المستمر وإعادة التأهيل المهني أصبحا ضرورة ملحّة. ولهذا بدأت بعض الدول بإطلاق مبادرات وطنية تهدف إلى تدريب القوى العاملة على المهارات الرقمية، مثل البرمجة، تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي، لضمان مواكبة التطورات.

أما من ناحية عقود التوظيف، فقد برزت خلال الفترة الأخيرة نماذج مبتكرة في إدارة الموارد البشرية، مثل “العقد الهجين”، الذي يجمع بين مميزات العقد الدائم والمؤقت، ويتيح للموظف حرية العمل عن بُعد مع التزام جزئي بالحضور الفعلي. ويجد هذا النموذج قبولًا واسعًا لدى الشركات العالمية، إذ يساهم في خفض التكاليف التشغيلية ورفع إنتاجية الموظفين، خاصة بعد تجربة العمل من المنزل خلال جائحة كوفيد-19 التي أثبتت نجاح هذا النمط في قطاعات متعددة.

القوانين العمالية في كثير من البلدان ما زالت تحاول مواكبة هذا التغير السريع. ففي دول مثل ألمانيا وفرنسا، بدأت الجهات التشريعية بإدخال تعديلات على قوانين العمل لضمان حماية العاملين في الاقتصاد الرقمي، وفرض حد أدنى للأجور في العقود غير التقليدية. أما في دول نامية، فما زالت القوانين غير محدثة بما يكفي للتعامل مع الواقع الجديد، مما يعرّض العاملين لخطر الاستغلال والحرمان من الحقوق الأساسية.

على مستوى الشركات، فإن التحدي الأكبر يتمثل في القدرة على استقطاب المواهب وتوظيفها بشكل يتناسب مع احتياجاتها المتغيرة. ولهذا اتجهت بعض الشركات إلى إعادة تصميم بيئة العمل، بما فيها سياسات الحوافز والتقييم والترقية، لتكون أكثر جذبًا للكوادر المؤهلة. كما أصبحت بعض المؤسسات تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي لاختيار المرشحين الأنسب للوظائف، مما يساهم في تسريع عمليات التوظيف وتحقيق الكفاءة في اختيار المواهب.

الموظفون بدورهم أصبحوا أكثر وعيًا بشروط العمل، وأكثر انتقائية في اختيار العقود التي يوقعونها. فقد ولّت الأيام التي يقبل فيها الشباب بأي وظيفة دون الاطلاع على تفاصيل العقد وحقوقهم فيه. ومع توفر المعلومات عبر الإنترنت، وتنامي ثقافة العمل الحر، بات العامل يبحث عن التوازن بين الأجر والمرونة والأمان الوظيفي، وهو ما يفسر تزايد ظاهرة “الاستقالة الكبرى” التي اجتاحت العالم بعد الجائحة، حيث استقال الملايين من وظائفهم بحثًا عن بيئة عمل أفضل.

ولا يمكن تجاهل الدور الحاسم الذي تلعبه الحكومات في تنظيم سوق العمل وضمان الشفافية في العقود. فالحكومات مطالبة بوضع أنظمة رقمية لتوثيق عقود العمل، وتسهيل عمليات التسجيل في التأمينات، وتفعيل آليات رقابية تحدّ من التجاوزات. كما أن تطوير التعليم الفني والتقني وربطه بسوق العمل الحقيقي أصبح ضرورة استراتيجية لضمان تدفق العمالة المؤهلة.

في المحصلة، يبدو أن فرص العمل أصبحت أكثر تنوعًا، لكنها في المقابل أقل أمانًا من حيث العقود. ولعل التحدي الأبرز في المرحلة القادمة هو الوصول إلى صيغة عادلة ومرنة في التوظيف، تحقق مصلحة العامل وصاحب العمل على حد سواء. وبينما تتطور العقود نحو مزيد من الرقمنة، يبقى الإنسان هو المحور الأساسي لأي عملية إنتاجية، مما يتطلب التزامًا أخلاقيًا وتشريعيًا لضمان حقوقه وتمكينه من الاستفادة من هذا التحول التاريخي في بنية سوق العمل.

شارك المقال :

Avatar photo

Egaz

تم التحقق والنشر بواسطة فريق تحرير إيجاز نيوز

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *