في خضم التصعيد العسكري غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، تبرز القدرات الصاروخية الإيرانية بوصفها حجر الزاوية في معادلة الردع الإقليمي. فالصواريخ الباليستية الإيرانية، التي تم تطويرها على مدى عقود، لم تعد مجرد أدوات ضغط نفسي أو رمزي، بل تحولت إلى أسلحة دقيقة التوجيه ذات مدى بعيد وتأثير مدمر، أثبتت جدارتها الميدانية في أصعب سيناريوهات المواجهة.
من بين هذه الصواريخ، تبرز أسماء مثل “الحاج قاسم” و**”قاسم بصير”**، وهما من أحدث الطرازات التي أدخلها الحرس الثوري الإيراني في خدمته خلال السنوات الأخيرة. استخدام هذه الصواريخ في الهجمات الأخيرة على مدن إسرائيلية كبرى مثل تل أبيب وحيفا، لم يكن مجرد رد فعل عسكري، بل رسالة استراتيجية متعددة الأبعاد.
التكنولوجيا العسكرية الإيرانية: من الردع إلى الهجوم المركز
لقد بنت إيران ترسانتها الصاروخية استنادًا إلى فلسفة عسكرية واضحة: “لن نتفوق جوًا، فلنتفوق صاروخيًا.” وفي هذا السياق، استثمرت طهران بشكل مكثف في تطوير صواريخ باليستية ومجنّحة بعيدة المدى، تعتمد على تقنيات توجيه متقدمة ونظم إطلاق متنقلة تزيد من صعوبة استهدافها من قبل الأعداء.
الصاروخ “الحاج قاسم”، الذي سمي تكريمًا لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، يُعد من أبرز الإنجازات العسكرية الإيرانية الحديثة. يبلغ مداه 1400 كيلومتر، ويتميز برأس حربي يزن حوالي 500 كغ، وقدرة على المناورة في المرحلة النهائية من طيرانه لتفادي منظومات الدفاع الجوي.
أما صاروخ “قاسم بصير”، فهو تطوير ذكي أكثر تعقيدًا، يعتمد على نظام ملاحة داخلي متطور يمكنه إصابة أهداف بدقة تصل إلى 10 أمتار فقط من نقطة التوجيه. هذا يعني أن الصاروخ لا يحتاج إلى توجيه خارجي أو بيانات GPS، وهو ما يجعله محصنًا أمام محاولات التشويش أو إسقاطه إلكترونيًا.
الهجمات الأخيرة: تغيير قواعد اللعبة
في الساعات الأولى من الهجوم الإيراني على إسرائيل يوم الجمعة، أعلنت طهران عن إطلاق أكثر من 60 صاروخًا باليستيًا وطائرة مسيرة هجومية من طراز “شاهد-136″، لكن الأكثر لفتًا للأنظار كان استخدام دفعات متتالية من “الحاج قاسم” و”قاسم بصير” التي نجحت في الوصول إلى أهداف استراتيجية داخل تل أبيب، بينها منشآت عسكرية، مراكز اتصالات، ومخازن طوارئ مدنية.
تؤكد مصادر استخباراتية غربية أن خمسة على الأقل من هذه الصواريخ تجاوزت نظام “القبة الحديدية” الإسرائيلي، الذي يعد من أكثر منظومات الدفاع الجوي تطورًا في العالم. وتشير هذه المصادر إلى أن تفوق الصواريخ الإيرانية جاء نتيجة اعتمادها على تقنيات التخفي والمناورة المتقدمة، بالإضافة إلى إطلاقها من منصات متعددة وفي توقيتات متزامنة لتشتيت الدفاعات.
التسويق العسكري: إيران تعرض قوتها أمام العالم
بعيدًا عن الجوانب العسكرية، يمكن القول إن هذه الضربات الصاروخية تمثل حملة “تسويق عسكري” بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فإيران تسعى من خلالها إلى إيصال رسائل مباشرة لحلفائها وأعدائها في آنٍ واحد، مفادها أن امتلاك السلاح لا يكفي، بل يجب أن يكون فعالًا ومجربًا.
بلغة الأرقام، تشير التقديرات إلى أن تكلفة تطوير كل صاروخ من طراز “قاسم بصير” لا تتجاوز 250 ألف دولار، وهو رقم ضئيل مقارنة بتكلفة اعتراضه بصاروخ من طراز “تمير” ضمن منظومة القبة الحديدية، التي تصل إلى 100 ألف دولار للصاروخ الواحد. وهذا الفارق في الكلفة يعكس تفوقًا استراتيجيًا في “الحرب الاقتصادية” داخل المعركة العسكرية، وهي نقطة بارزة في التفكير الإيراني الدفاعي.
الردع المتبادل: مناورات العقل لا العضلات فقط
ما يحدث اليوم ليس مجرد تبادل نيران، بل هو عرض استراتيجي معقد يقوم على توظيف الذكاء الاصطناعي، وعلوم الفيزياء، وتقنيات التوجيه البصري، والمعلومات الاستخباراتية. وإيران، من خلال منظومتها الصاروخية المتقدمة، تؤكد أنها ليست دولة تقليدية في فهمها للمواجهة، بل لاعبٌ محترف يتقن خيوط الحرب النفسية والإعلامية والعسكرية في آن واحد.
ومع بروز تقارير عن استخدام “قاسم بصير” في إصابة مرفق نفطي استراتيجي داخل ميناء إيلات، تتجه الأنظار إلى احتمالية استخدام هذه الصواريخ في مسارح جديدة داخل الشرق الأوسط، لا سيما في حال توسعت رقعة النزاع لتشمل دولًا إقليمية أخرى.
ختامًا: هل بدأ عصر الصواريخ الذكية؟
ما بين القدرة التدميرية العالية والدقة التوجيهية المذهلة، وما بين الفعالية الاقتصادية والكفاءة التقنية، يبدو أن إيران دخلت عصر “الصواريخ الذكية” بقوة. وإذا كانت المواجهات السابقة تدور في نطاق الاشتباك غير المباشر، فإن ما نشهده اليوم هو ميدان اختبار عملي لهذه الترسانة التي طالما أثارت الجدل.
لقد تحولت الصواريخ الإيرانية من أدوات استعراض في الاستعراضات العسكرية إلى أسلحة فعالة تفرض معادلات جديدة، في وقت تحاول فيه القوى الكبرى إعادة رسم خريطة الردع الإقليمي. فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من التوازنات، أم أن الصاروخ القادم سيحمل الجواب؟