عاجل

انهيار جديد للهدنة في السودان: نيران متجددة على أنقاض الأمل

في مشهد بدا وكأنه تكرار مرير لفصول مأساوية لا تنتهي، أعلنت الوساطة الأفريقية، صباح اليوم 17 يونيو 2025، فشل الهدنة الأخيرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد أقل من 48 ساعة على توقيعها. الاشتباكات اندلعت مجددًا في قلب العاصمة الخرطوم، وتوسعت إلى مدن أخرى مثل أم درمان ونيالا، وسط حالة من الذعر بين السكان المدنيين الذين لم يكدوا يلتقطون أنفاسهم من الجولة السابقة حتى اجتاحتهم أصوات المدافع والرصاص من جديد.

الهدنة التي رعَتها دول أفريقية بالتعاون مع الأمم المتحدة، كانت تهدف لفتح ممرات إنسانية وتيسير إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة، غير أن كلا الطرفين اتهم الآخر بخرق الاتفاق في أولى ساعاته. وأعلنت قيادة الجيش السوداني في بيان مقتضب أن “قوات الدعم السريع استهدفت وحداتنا في شارع الستين وحي الصحافة، ما اضطرنا إلى الرد الفوري لحماية المدنيين”، بينما ردت قوات الدعم السريع في بيان مضاد بأن “الجيش هو من بدأ القصف على مواقعنا غرب الخرطوم”.

مراسلون محليون أفادوا بأن أصوات الانفجارات هزت الأحياء الجنوبية والشرقية للعاصمة، وأن آلاف العائلات بدأت بالنزوح من جديد، في مشهد يتكرر كل أسبوع تقريبًا منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023. وبدت معالم الحياة شبه متوقفة، مع إغلاق الأسواق والمدارس وتعليق خدمات المستشفيات التي تعمل أصلًا بموارد شحيحة وتحت ضغط متواصل.

في هذه الأثناء، قالت منظمة “أطباء بلا حدود” إن الوضع الإنساني في العاصمة “كارثي إلى أبعد حد”، مضيفة أن “عدد الإصابات يتضاعف يوميًا، فيما الإمدادات الطبية تنفد بسرعة مخيفة”. كما أكدت الأمم المتحدة أن أكثر من 2.2 مليون نازح داخليًا يواجهون خطر المجاعة نتيجة تعطل خطوط الإمداد ونقص الوقود والدواء.

التحركات الدبلوماسية لم تتوقف، لكنها بدت وكأنها تدور في حلقة مفرغة. فبعد أيام من الاجتماعات المكثفة في أديس أبابا والدوحة، لم يُسجل أي تقدم فعلي على الأرض. وأعرب مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى السودان عن “أسفه العميق” لفشل الهدنة، داعيًا الطرفين إلى “العودة الفورية لطاولة الحوار قبل أن تنفجر البلاد بشكل لا رجعة فيه”.

ورغم التنديد الدولي، يواصل الطرفان تبادل التهم. مصادر مطلعة كشفت عن استخدام أسلحة ثقيلة ومدفعيات طويلة المدى داخل الأحياء السكنية، الأمر الذي يشير إلى تصعيد خطير في قواعد الاشتباك، ويهدد بمحو ما تبقى من بنية العاصمة التحتية. السكان في حي بري وأركويت أكدوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن الكهرباء والمياه انقطعت تمامًا منذ مساء الأمس، وأن الجثث بدأت تنتشر في الشوارع، في ظل عجز تام للمسعفين.

في المقابل، يصر كلا الطرفين على امتلاك زمام السيطرة. ففي حين بثّ الجيش لقطات تُظهر سيطرته على مواقع استراتيجية بالقرب من القيادة العامة، بثت قوات الدعم السريع مقاطع تظهر تقدمها في بعض الأحياء الغربية، ما يعكس حجم التداخل وتعقيد الجبهات داخل العاصمة. هذا الغموض في سير المعارك يجعل من الصعب على المواطنين معرفة أي جهة تسيطر على مناطقهم.

وتأتي هذه الجولة الجديدة من العنف في وقت تعاني فيه البلاد من شلل اقتصادي شبه كامل. الجنيه السوداني يواصل انهياره أمام الدولار، وارتفعت أسعار الخبز والوقود بنسبة تجاوزت 300% خلال الأسبوعين الأخيرين. كما أن البنوك مغلقة، والتحويلات متوقفة، في حين تتوسع السوق السوداء وتفرض إيقاعًا قاسيًا على المواطنين.

السودانيون في الشتات أطلقوا عدة حملات على مواقع التواصل بعنوان #أنقذوا_الخرطوم و#الهدنة_أملنا، داعين المجتمع الدولي إلى “تحرك حقيقي لا يكتفي بالتصريحات والقلق”. ورغم الزخم الشعبي، إلا أن الخوف من استمرار الحرب وتحولها إلى نزاع طويل الأمد على غرار السيناريوهات الليبية أو اليمنية، صار هاجسًا يطارد الجميع.

من جهة أخرى، بدأت مجموعات من النشطاء والسياسيين تطالب بإنشاء “مجلس وطني مدني” يُدير المرحلة الانتقالية في حال نجحت الجهود في فرض وقف دائم لإطلاق النار. غير أن هذه الفكرة تواجه رفضًا من كلا الطرفين، اللذين يعتبران أن أي حل يجب أن يمر عبر ميزان القوة على الأرض.

وفي تحليل لمركز الدراسات الاستراتيجية في نيروبي، حذر الباحث عبد الله موسى من “احتمال تفكك الدولة السودانية إذا استمر هذا النمط من الحرب المتمركزة داخل المدن”، مضيفًا أن “أزمة الثقة بين الفرقاء أصبحت أعمق من أن تُعالج عبر هدنة محدودة أو تفاهمات سطحية”. كما أشار إلى أن “القوى الإقليمية المتداخلة في الملف السوداني لديها مصالح متعارضة، ما يعقّد أي محاولة لتوحيد الجهود”.

ختامًا، يمكن القول إن ما يحدث في السودان لم يعد مجرد أزمة سياسية أو عسكرية، بل أصبح كارثة إنسانية تهدد وجود الدولة ذاتها. ومع استمرار النزوح وغياب الخدمات وتآكل الثقة، يبقى الأمل الوحيد في مبادرة دولية جريئة تفرض وقفًا حقيقيًا لإطلاق النار، وتعيد صياغة مستقبل البلاد على أسس العدالة والمواطنة والمصالحة، قبل أن تتحول الخريطة السودانية إلى فسيفساء من المآسي لا تُرمم.

شارك المقال :

Avatar photo

Egaz

تم التحقق والنشر بواسطة فريق تحرير إيجاز نيوز

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *