عندما تكتب إيران سطور المشهد والمقاومة تطبعها : ويعجز الامريكيائيليين عن فك تشفيرها

في بدايات هذا الأسبوع، وبينما كانت شاشات العالم تُعتم بشعارات “وقف إطلاق النار” و”هدنة مؤقتة”، كانت الحقيقة تنسج حبكتها خلف الأبواب المغلقة: تل أبيب تلهث وراء التهدئة، وواشنطن تترنح بين توازنات حلفائها ونووي طهران، بينما تتقدّم إيران والمقاومة على رقعة الشطرنج الإقليمية بخطى ثابتة. ثلاثة محاور تزامنت في مشهد عبثي يُجيد فيه اللاعب الأضعف رفع الصوت، بينما يختبئ “الجبابرة” خلف التصريحات الدبلوماسية.
أمريكا: بطل الهزائم الاستراتيجية
ما الذي يجبر قوة عظمى مثل الولايات المتحدة على التوسل لمفاوضات نووية مع دولة سبق أن وصفتها بأنها “راعية للإرهاب”؟ الجواب بسيط: الفشل. بعد عقود من العقوبات والاغتيالات والتضييق على طهران، تجد واشنطن نفسها تعود إلى طاولة المفاوضات، ليس من موقع قوة، بل من موقع الضرورة.
فإيران لم تنهر، ولم تُركع، ولم تُذل كما تخيلت عقول صقور البنتاغون. على العكس، طوّرت قدراتها العسكرية، عمّقت تحالفاتها مع قوى المقاومة، وزادت من نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. واليوم، تعود أمريكا مهرولة لإحياء الاتفاق النووي، ليس بدافع الإيمان بالدبلوماسية، بل خوفًا من أن تُصبح إيران نووية فعلًا، وبإرادتها الكاملة.
وماذا عن إسرائيل؟ حليف أمريكا المدلل، الذي لا يملك إلا أن يشكو إلى “العم سام” ضعف خياراته. ما بين تصعيد غير محسوب في غزة، ومواجهة “شبحية” مع إيران لا تملك الجرأة لتحويلها إلى حرب مفتوحة، تبدو تل أبيب كمن فقد السيطرة على زمام الأمور، واكتفى بالتهديدات الصوتية والتصريحات الاستعراضية.
إسرائيل: “الجيش الذي لا يُقهر” يتوسل الإنهاء الان
منذ متى أصبح “الجيش الذي لا يُقهر” بحاجة إلى وقف إطلاق نار مشترك مع أمريكا؟ منذ أن تحوّلت صواريخ غزة إلى كابوس يومي، ومنذ أن بدأت هجمات حزب الله تُقض مضاجع الشمال، ومنذ أن أصبح الردع الإسرائيلي مجرد شعار يُرفع على أنقاض المباني المُدمّرة.
تل أبيب اليوم تعيش أسوأ حالاتها الأمنية. لا هي قادرة على فرض حسم عسكري، ولا تستطيع تحمل حرب استنزاف، ولا تملك استراتيجية خروج من مستنقع غزة. وهنا تتجلى المفارقة: إسرائيل، التي لطالما سوقت نفسها كدولة ذات “أمن داخلي فولاذي”، أصبحت رهينة صواريخ محلية الصنع، وطائرات مسيّرة تحمل تواقيع فصائل المقاومة، بينما يعيش مستوطنوها تحت رحمة صفارات الإنذار.
الهدنة الحالية، التي تمت بتنسيق أمريكي–إسرائيلي، ليست دليل قوة أو حكمة، بل اعتراف صارخ بالعجز. هي أقرب إلى رفع الراية البيضاء، مغلفة بورق دبلوماسي لامع. أما الحديث عن “إعادة التموضع الاستراتيجي”، فلا يعدو كونه تبريرًا أنيقًا للانسحاب من خطوط المواجهة.
إيران: اللعب بالنار دون الاحتراق :
أما في الجانب الآخر، فإيران تواصل السير بثقة. لقد أثبتت طهران أنها تعرف متى تهاجم ومتى تتريث. تردّ حين ينبغي الرد، وتُرسل الرسائل حين يحين وقت التفاوض، وتتحرك إقليميًا بحسابات دقيقة تجعل من كل خطوة استراتيجية جديدة.
الضربات الأخيرة المتبادلة بينها وبين إسرائيل لم تُشعل حربًا، لكنها أثبتت شيئًا واحدًا: أن الرد الإيراني ليس خيارًا نظريًا، بل واقعًا فعليًا. وعلى عكس إسرائيل، لم تطلب إيران وساطات. لم تنسق مع أحد لتوقف النار. بل ردّت ثم صمتت، وراقبت نتائج صدى صوتها يتردد في تل أبيب وواشنطن.
عودة المفاوضات النووية ليست تنازلًا من طهران، بل انتصار دبلوماسي. فبعد كل هذه الضغوط، تأتي واشنطن لتجلس وتستمع، وتبحث عن “نقاط تقاطع” بعد أن جرّبت سياسة الخنق وفشلت. والمفارقة هنا أن الغرب، الذي أراد حرمان إيران من “المعرفة النووية”، أصبح اليوم يفاوض دولة تعرف كل شيء تقريبًا، وتخفي ما يجب أن يُخفى.
غزة : شبحٌ لا يموت
وفي ظل كل هذا، تبرز غزة، تلك البقعة الصغيرة التي حوّلت ميزان القوى في الشرق الأوسط إلى قصة عبثية. هنا لا توجد جيوش نظامية، ولا طائرات F-35، ولا غواصات نووية. فقط إرادة، وذكاء، وإيمان بعدالة القضية.
المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس والفصائل، أثبتت أن الردع الحقيقي لا يُقاس بعدد الطائرات، بل بالقدرة على الصمود. من تحت الحصار، ومن تحت الركام، تخرج الصواريخ، وتُبنى الأنفاق، وتُدار المعارك بتكتيكات أربكت جيشًا يُفاخر بأنه الأكثر تطورًا في المنطقة.
والآن، تسعى إسرائيل إلى هدنة جديدة، لأنها تدرك أن كل يوم حرب يُهين كبرياءها أكثر. لكنّ المشكلة أن كل هدنة تُكرّس معادلة جديدة، تكون المقاومة فيها الطرف الأقوى. ما لم تفهمه إسرائيل بعد هو أن غزة لم تعد مجرد “مشكلة أمنية”، بل حالة سياسية وميدانية لا يمكن تجاوزها.
رهانات المستقبل : من يتراجع ومن يتقدّم بثبات ؟
في ظل هذا المشهد، تبرز معادلة جديدة: إسرائيل وأمريكا يتراجعان، وإيران والمقاومة يتقدمان. فبينما يبحث المحور الأمريكي–الإسرائيلي عن استقرار هش، تبني طهران وحلفاؤها أرضية صلبة لمشروع استراتيجي بعيد المدى، يتجاوز الحسابات الآنية.
وحتى لو وُقعت الهدن، فإن سؤال الاستدامة سيبقى معلقًا. فهل يمكن أن تُبنى الثقة بين من يطلق النار ثم يطلب وقفها، وبين من يصبر ويضرب حيث لا يتوقع العدو؟ وهل يمكن لأي اتفاق أن يصمد إذا كانت شروطه تُكتب في واشنطن، ويُطلب من الضحايا فقط الالتزام بها؟
حينما يصبح “الردع” باهظ الثمن :
لم تعد كلمات مثل “الردع” و”الهيمنة” تثير الرهبة، بل السخرية. فإسرائيل التي تهدد دائمًا، لم تعد تخيف أحدًا. وأمريكا التي تتدخل دائمًا، أصبحت تتوسل الشراكة. في المقابل، تواصل إيران والمقاومة رسم ملامح شرق أوسط جديد، لا تُصنع قراراته في البيت الأبيض، بل على حدود غزة، وفي عمق لبنان، وعلى أرض العراق، وفي سماء سوريا.
العالم يتغيّر، واللاعبون يُبدّلون أدوارهم. لكن من الواضح أن من يكتب السيناريو اليوم، ليس بالضرورة من يملك الأسلحة، بل من يملك الإرادة والذكاء الفطن، هو من لا يخشى النيران… لأنه اعتادها .