لماذا يُستجاب دعاء غيري ولا يُستجاب لي؟ الحقيقة التي نغفلها

كم مرة دعوت الله من قلبك، ودموعك تنهمر، ولسانك يلهج بكل كلمات الرجاء؟ كم مرة رفعت يديك إلى السماء، تترجى رحمة لا تنفد، ثم عدت وأنت تشعر أن لا شيء تغيّر؟ وبينما تحاول فهم هذا الصمت، ترى من حولك يُستجاب لهم، فيغمرك سؤال مؤلم لا تجرؤ أحيانًا على التصريح به: “هل الله لا يحبني كما يحبهم؟”
سؤال عالق في القلب… نهمسه كلنا أحيانًا
هذا السؤال لا يدل على ضعف إيمان، بل على شدة التعلق. هو صوت الإنسان حين يُرهقه الانتظار، ويُرهقه الصمت، ويُرهقه الشعور بأنه وحده في طريق الدعاء. لكنه في الحقيقة، ليس وحده. فكل قلب مُتعلق بأمنية، يحمل هذا السؤال في لحظة من اللحظات.
لكن قبل أن نحكم على أنفسنا، علينا أن نعيد فهم طبيعة الدعاء، وأن نفك شفرة هذا الباب العلوي الذي لا يُرد منه أحد… حتى لو طال الانتظار.
الدعاء يُستجاب دائمًا… لكن الاستجابة ليست واحدة
قال النبي ﷺ: “ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجّل له دعوته، أو يدّخرها له في الآخرة، أو يصرف عنه من السوء مثلها.”
هذه ليست كلمات تطييب خاطر، بل وعد نبوي يحمل مفاتيح الفهم العميق. كل دعاء تُلقيه إلى السماء يُسجّل، ويُوزن، ويُرد عليك بواحدة من تلك الصور.
ربما كنت تريد شيئًا الآن، لكن الله يراه خطرًا عليك في الوقت الحالي. وربما يختبئ الخير في منعه، أكثر من تحقيقه. وكم من أمنية بكينا لأجلها، فلما لم تتحقق، حمدنا الله بعدها بسنين.
لماذا لا أشعر بالاستجابة؟
قد تعتقد أن عدم حدوث ما طلبته يعني أن دعاءك لم يُقبل، لكن هذا الفهم قاصر. الله لا يُهمل دعاء عبده، لكنه يُدبّره بحكمة أوسع من إدراكنا. أحيانًا يؤخر، وأحيانًا يُبدّل، وأحيانًا يُعجّل، لكنه لا ينسى.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾… استجب، بصيغة الوعد، لا الاحتمال.
هل تأخُّر الإجابة يعني أنني مذنب؟
ربما يكون الذنب حاجزًا بينك وبين الإجابة، لكن ليس دائمًا. قال ﷺ: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ.”
القلب الغافل هو المشكلة… لكنك حين تدعو بوعي، وبخشوع، وبشوق، فأنت في مقام العبد المحب، مهما كانت ذنوبه. والله يحب التوابين… فحتى إن كنت مخطئًا، يكفي أن تعود إليه بصدق.
دعوة زكريا… وتأخُّر لأعوام
تأمل دعوة زكريا عليه السلام. رجلٌ صالح، نبي، يدعو الله أن يُرزقه ولدًا. ولم يُستجب له إلا حين “بلغ من الكِبر عتيًّا”. لم يمل، لم يشكُ، لم يقل: دعوت ولم أُستجب. بل واصل، بثبات القلب، حتى جاءه النداء: “يا زكريا إنا نبشرك بغلام.”
إن كنت تتساءل: لماذا لم يُستجب لي؟ فاسأل نفسك: هل دعوت كما دعا زكريا؟ هل صبرت كما صبر؟
نحن لا نُجيد الانتظار… والله يُجيد التوقيت
في داخلنا لهفة، نريد كل شيء بسرعة. ولكن الدعاء لا يُعامل كبقية الطلبات… هو ارتباط بالسماء، يُقدّر بالزمن الإلهي لا البشري.
أحيانًا، لا نكون مستعدين نفسيًا أو روحيًا لما نطلبه. والله يعلم هذا. لذلك، يُربينا بالدعاء… يعلمنا الصبر، والثقة، والانكسار، وصدق التوكل.
كل دعوة… بذرة تُزرع
تخيل أنك تزرع شجرة. هل تتوقع أن تنبت في اليوم نفسه؟ لا، بل تحتاج وقتًا، وسقيًا، وصبرًا، ثم تثمر.
كل دعاء هو بذرة في تربة القدر. بعضها يُثمر سريعًا، وبعضها يحتاج سنوات، وبعضها لا يُثمر إلا في الجنة.
ولكنك لا تخرج من الدعاء أبدًا دون ثمرة… سواء رأيتها الآن، أو لاحقًا، أو رأيتها حين لا ينفع إلا العمل الصالح.
دعاؤك محفوظ… لا يُنسى
قال الله تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾… لم يقل متى، لكنه وعد بالإجابة.
الدعاء ليس تجربة تفشل أو تنجح. إنه عبادة، إنه علاقة، إنه حب. وما دام قلبك ينبض بنداء، فأنت قريب… والله أقرب إليك من حبل الوريد.
من يُستجاب لهم… ليسوا أفضل منك
حين ترى من حولك تُستجاب دعواتهم، لا تظن أن الله يُفضلهم عليك. ربما رزقهم لأنهم لا يملكون الصبر الذي تملكه. وربما أعطاك الله مرتبة أعلى بصبرك من دون أن تدري.
الميزان الإلهي لا يُقاس بما نراه نحن. وما يظنه الناس نعمة قد يكون بلاء، وما نظنه تأخيرًا قد يكون حماية.
تذكّر… أنت لا تدعو عبثًا
كل مرة دعوت فيها، حتى في منتصف الليل، حتى وأنت في قاع الحزن، حتى وأنت تتكلم مع نفسك فقط… كلها سُجلت.
وسترى يومًا، أن كل حرف نطقت به، وكل دمعة سقطت، كانت تُجهز لك فرجًا ما، في وقت ما، أو يومًا ما… قد يكون اليوم الذي تحتاج فيه الإجابة أكثر من أي وقت آخر.
الله لا يؤخر عنك إلا ليعطيك الأفضل، في وقته، بحكمته، وبرحمته.
فلا تترك الدعاء… فهو ليس وسيلة فقط لتحصيل الأمنيات، بل هو حياة، وطمأنينة، وعلاقة لا تنقطع أبدًا بينك وبين من لا ينسى أحدًا.
ولعل أعظم الإجابات… هي أن يُبقيك الله على باب الدعاء، فلا تمل، ولا تنكسر… فتظل قريبًا منه، دائمًا.