شاب فقد ساقه فحمل الأمل على كتفه… وقاد قريته إلى التغيير

حينما تُبتر ساقك… ويبدأ الطريق
في قرية صغيرة نائية تحيط بها الجبال ويقطعها طريق ترابي بالكاد يُرى على الخريطة، وُلد ص. لم يكن مختلفًا عن أقرانه: شاب في أواخر العشرينات، يعمل في مصنع طوب، يساعد والديه، ويقضي أيامه بين شقاء العمل وصخب الدراجة النارية التي كانت وسيلته الوحيدة للوصول إلى مصدر رزقه. لكن في صباح ربيعي عادي، انزلقت دراجته على منعطف وعر، ليرتطم جسده بقوة بعمود كهربائي صدئ. أصيب إصابة بالغة في ساقه اليمنى، وبدأت رحلة لم يكن يعرف إلى أين ستقوده.
القرار المُرّ… والنقطة الفاصلة
بعد أسبوعين من الألم والانتظار في المستشفى الحكومي، جاءت الكلمات كصفعة: “يجب بتر الساق… لا خيار آخر”. ساد الصمت، تبعه نحيب الأم، وانكسار الأب. أما ص، فابتلع الصدمة دون دمعة واحدة. شعر أن الحياة التي يعرفها انتهت… لكنه لم يدرك حينها أن حياة جديدة بدأت في تلك اللحظة بالذات.
الكرسي المتحرك… والابتسامة غير المفسَّرة
عاد إلى قريته على كرسي متحرك، عيون الجيران تملؤها الشفقة، وبعض الهمسات تسبق ظهوره في الطرقات: “كيف سيعيش؟”، “من سيعيله؟”، “انتهى مستقبله”. لكنه فاجأ الجميع. لم يكن يطلب شيئًا، بل ظل يبتسم، كأنه يخبئ في صدره شيئًا ما. وذات صباح، شاهده أحد الأطفال يتفقد كومة من الخردة قرب منزله… يبحث عن قطع خشب وأنابيب حديدية.
الطرف الأول… بأدوات من بقايا الحياة
جلس أيامًا يصقل الخشب، يقيس الزوايا، يختبر التوازن. استعان بمفك عتيق، ومطرقة صدئة، وبعض البراغي القديمة. وبعد محاولات كثيرة، تمكّن من صنع طرف صناعي بدائي يضعه مكان ساقه المبتورة. لم يكن مريحًا، لكنه حمله خطوة إلى الأمام. حرفيًا.
بدأ يتجول داخل قريته على ساقه الخشبية، يحيي الجميع، يضحك مع الأطفال، بل وبدأ يساعد والده في تصليح السقف. حدث لم يصدقه أهل القرية في البداية. لكن ما إن بدأت صور خطواته تنتشر على وسائل التواصل حتى تغيّر كل شيء.
من الألم إلى التصميم… ومن التصميم إلى مشروع
قرر ص أن لا تكون ساقه وحدها ما يُصنع. فكر في الآخرين، من مثله، من حُرموا من أطرافهم ويجلسون في الظل. وهكذا، انطلقت الفكرة: ورشة صغيرة لصناعة الأطراف البديلة بأقل التكاليف. اختار أرضًا مهجورة بجوار بيته، وأخذ ينظفها بيديه. لم يطلب تبرعات، بل بدأ بنشر منشورات بسيطة على فيسبوك: صور له وهو يعمل، يشرح فكرته، يبتسم رغم التعب.
جاء الدعم تدريجيًا من أبناء القرية والمغتربين. أدوات بسيطة وصلت إليه، وبعض المتبرعين أرسلوا معدات مستعملة. ومع الوقت، بدأت الورشة في إنتاج أول أطرافها الحقيقية.
خمسة عشر حلمًا تمشي على الأرض
في أقل من عام، صنع ص أكثر من 15 طرفًا صناعيًا بالمجان لأشخاص في قريته والقرى المجاورة. استقبل أشخاصًا لم يعرفهم، استمع لحكاياتهم، وصنع لكل منهم طرفًا يناسب قياسه. لم يكن مجرد نجارًا يصنع أطرافًا، بل كان يصنع كرامة.
بدأ الإعلام المحلي يتحدث عنه. أولًا على صفحات مواقع التواصل، ثم مقابلات في الإذاعة، ثم ظهوره في أحد البرامج التلفزيونية. وعندما سُئل عن شعوره، قال بهدوء: “أنا فقط أعدتُ لنفسي دورًا في الحياة، ثم شاركت هذا الدور مع غيري.”
القرية تتنفس من جديد
بعد أن كانت القرية تُعرف بفقرها وعزلتها، بدأت تتغيّر. حملات توعية انطلقت من ورشته، تحدث فيها عن دمج ذوي الإعاقة، وعن ضرورة تعديل مداخل المدارس والمراكز لتكون صديقة للجميع. تعاون مع معلمين لتوفير مقاعد مناسبة للأطفال ذوي الاحتياجات. كتب لافتات بخط يده: “الإعاقة ليست في الجسد… بل في من لا يحاول.”
اليوم، تأتيه زيارات من مدن بعيدة، ويستشيره طلاب كليات هندسة في مشاريعهم. شباب القرية بدأوا يتطوعون في الورشة، وآخرون تعلّموا منه كيف يمكن تحويل الألم إلى مهنة… والوجع إلى فكرة.
من فقد ساقه… ليحمل قرية على كتفيه
تقول عنه عجوز من القرية: “هو فقد ساقه… لكن نحن من مشينا به.” عبارة تختصر ما فعله. لم يُنقذ نفسه فقط، بل أعاد الأمل لمجتمع كامل. لم يكن بحاجة لساق، بل كان يحتاج لرؤية… وصوت داخلي يقول له إن الحياة لم تنتهِ.
يقول في إحدى محاضراته: “أعظم اختراع في حياتي لم يكن الطرف الخشبي… بل كان اليقين أني لا زلت قادرًا على العطاء.”
العبرة الأخيرة… لا تنتظر المعجزة، كن أنت المعجزة
قصة ص ليست قصة شفقة أو بطولات خارقة. إنها ببساطة رواية إنسان آمن بنفسه عندما تخلّى عنه الجميع. لم يكن يملك المال، ولا شهادة، ولا دعم رسمي… لكنه امتلك ما لم يمتلكه غيره: إرادة ترفض أن تموت.
واليوم، إذا مرّرت قرب تلك القرية النائية، ستسمع طرقات المطرقة، وصوت منشار الخشب، وضحكات ممتزجة بإيمان لا يُكسر. هناك شاب فقد ساقه… لكنه قاد مجتمعًا بأكمله ليمشي.