هل الإعلام يصنع الرأي العام أم يعكسه؟

منذ فجر التاريخ، لعب الإعلام دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجماهيري، من المنابر التقليدية وحتى المنصات الرقمية. ومع دخولنا عصر السرعة والمعلومة الفورية، بات من الضروري طرح هذا السؤال الجوهري: هل الإعلام هو من يُشكّل الرأي العام، أم أنه مجرد مرآة له؟
الإعلام كقوة صانعة للرأي العام
في كثير من الأحداث المصيرية، بدا واضحًا أن الإعلام لا يكتفي بعرض ما يحدث، بل يسهم بشكل نشط في توجيه الإدراك العام. عندما تُكرّر القنوات الإخبارية مشاهد معينة، وتُسلّط الضوء على زوايا محددة وتتجاهل أخرى، فإنها تُعيد صياغة الواقع في ذهن المشاهد، سواء بوعي أو بدونه.
مثلًا، في إحدى النزاعات الكبرى التي اندلعت مؤخرًا، لم تقتصر التغطية على عرض المجريات، بل تم اختيار لقطات بعينها، وتكرارها مرارًا، حتى غدت جزءًا من الذاكرة الجمعية. هنا لا يكون الإعلام ناقلًا فحسب، بل يُنتج الرؤية، ويُشكّل الانطباع العام.
كما تؤكد دراسة أجرتها جامعة عالمية محايدة أن 72٪ من الناس يغيّرون موقفهم من حدث معين بناءً على التغطية الإعلامية الأولى التي يتعرضون لها. هذه النسبة المرتفعة توضح مدى فاعلية الإعلام في بناء توجهات جماهيرية.
اللغة والأسلوب: مفاتيح التوجيه
الإعلام لا يوجه الرأي فقط من خلال الصور والمحتوى، بل أيضًا عبر المفردات المختارة بعناية. فالتلاعب بالألفاظ مثل: “تحرير” بدلًا من “هجوم”، أو “شهيد” بدلًا من “قتيل”، كلها تشكل الإطار الذهني الذي يُنظر من خلاله إلى الحدث.
بل إن العناوين وحدها قد تكون كافية لتوجيه انطباع المتلقي، حتى دون قراءته للنص كاملًا. وكم من مرة لاحظنا فرقًا هائلًا في عناوين تقارير تتناول نفس الحدث في منصتين مختلفتين، فقط بسبب اختلاف التوجه السياسي أو التحريري.
ولعل ما قاله الصحفي المخضرم “ك.ع” في أحد اللقاءات، يُجسد هذه الفكرة: “كل كلمة تُنشر تُرسم بعين خفية، قد لا تلاحظها، لكنها تقودك بهدوء إلى الاستنتاج المطلوب”.
ماذا عن وسائل التواصل الاجتماعي؟
أحدثت الشبكات الاجتماعية زلزالًا في ديناميات العلاقة بين الإعلام والرأي العام. فاليوم، كل فرد يملك كاميرا وهاتفًا وإنترنت، بات قادرًا على أن يكون مصدرًا للمعلومة أو صانعًا للرؤية. لم يعد الصحفي وحده من يُحدّد العناوين، بل الجمهور يشارك، يرفض، يُصحح، ويُهاجم.
منصات مثل “يوتيوب” و”إكس” و”إنستغرام” باتت تُنتج اتجاهات عامة بسرعة تفوق الإعلام التقليدي. نذكر على سبيل المثال كيف دفعت موجة من التفاعلات الشعبية بمنصة تلفزيونية مشهورة لتغيير سرديتها حول قضية حساسة بعد أيام من الضغط الرقمي فقط.
وفي هذا السياق، أصبح الإعلام التقليدي أحيانًا تابعًا لا قائدًا. يركض خلف “الترند”، ويُعيد إنتاجه بدلًا من خلقه، في ظاهرة أطلق عليها الباحثون اسم “ارتدادية التغطية الإعلامية”.
الإعلام كمرآة للواقع
رغم ما سبق، يرى كثير من المراقبين أن الإعلام في جوهره انعكاس لما يطلبه الجمهور. المنصات الإخبارية لا تخلق المحتوى في فراغ، بل تستند إلى تحليلات دقيقة لما يُثير التفاعل. يتم تحليل عدد النقرات، مدة المشاهدة، وحتى الانفعالات في التعليقات، ثم يتم تعديل الخط التحريري بناء على ذلك.
فمنصة مثل “ن.ر” مثلًا، والتي كانت تركّز على السياسة في بدايتها، عدّلت توجهها نحو محتوى مجتمعي وشبابي فقط لأن الجمهور تفاعل أكثر مع هذا النوع. هذا يؤكد أن الإعلام أحيانًا لا يقود، بل يتبع. وهذا ليس تقليلًا من دوره، بل توصيف دقيق لحركته.
كما أن “ك.م” وهو محلل بيانات معروف في إحدى شركات المحتوى، أكد أن “الإعلام بات يقف على حافة التفاعل الجماهيري، ينتظر الموجة ليركبها، لا ليصنعها.”
معركة السيطرة: من يقود من؟
الصراع إذًا ليس حول “من يصنع من؟”، بل حول مَن يملك زمام المبادرة في اللحظة الراهنة. أحيانًا، يمتلك الإعلام أدوات كافية لتوجيه الرأي العام نحو قضايا مُفتعلة أو مهمّشة. وأحيانًا، يفاجئه الجمهور بمطالب وقضايا تُجبره على إعادة ترتيب أولوياته.
على سبيل المثال، خلال إحدى الحملات العالمية، تجاوز تفاعل الناس التوقعات، ما اضطر وسائل إعلامية تقليدية لتغطية القضية بعد تجاهلها أيامًا، تحت ضغط الجمهور وحده.
وفي مثال آخر، نجح إعلام موجّه في خلق حالة رعب مجتمعي من قضية أمنية بسيطة، فقط من خلال التهويل والتكرار. إذًا، العلاقة متبادلة، والمبادرة تتنقل.
خلاصة: علاقة معقدة بلا إجابة نهائية
السؤال “هل الإعلام يصنع الرأي العام أم يعكسه؟” لا يمكن حسمه بإجابة واحدة. هي علاقة جدلية، تشبه الرقصة بين طرفين، يتقدمان ويتراجعان تبعًا للظروف.
في بعض الأحيان، يعلو صوت الإعلام كقائد، صانع، ومُوجه. وفي أحيان أخرى، يصبح صوت الجمهور أقوى، يدفع بالإعلام ليعيد حساباته. وبين هذا وذاك، تظل الحقيقة في المنطقة الرمادية.
الأهم من الإجابة على هذا السؤال، هو أن يتحلى المتلقي بالوعي النقدي. لا يقبل كل ما يُقدّم له كحقائق نهائية، بل يُفكر، يُقارن، ويُعيد التقييم. فالإعلام، أداة قوية، لكنها تكتسب قوتها من صمت الجمهور، أو من وعيه.
ولذلك، لا يجوز أبدًا منح الإعلام سلطة مطلقة، كما لا يجب إنكار دوره في صناعة الوعي. هي معركة مفتوحة بين الرسالة والمُتلقي، بين الراوي والجمهور. ومن يفوز فيها، يحدد شكل المستقبل الإعلامي العربي.