بين الحياد والانحياز: أين تقف الصحافة العربية؟

لطالما كانت “النخبة” مصطلحًا مثيرًا للجدل في المجتمعات العربية وغيرها، إذ تحتدم الآراء حول دورها، مسؤولياتها، وأصالتها. فمن جهة، يُنظر إليها كضمير الأمة، تمثل الضمير الجمعي والقدرة على إحداث التغيير. ومن جهة أخرى، يرى كثيرون أنها مجرد أدوات في يد السلطة أو واجهة براقة تخدم مصالح خفية. يبقى السؤال مفتوحًا وجوهريًا: من يصنع النخبة الفكرية؟ هل الجماهير هي من ترتقي بأفراد معينين ليكونوا رموزًا للفكر والتوجيه؟ أم أن السلطة بمختلف أشكالها – سياسية، اقتصادية، إعلامية – هي التي تصنع هؤلاء وتوجههم لخدمة أهدافها؟
تعريف النخبة: فكر حر أم امتيازات ناعمة؟
النخبة الفكرية ليست مجرد فئة متعلمة أو مثقفة، بل هي مجموعة من الأفراد الذين يتمتعون بتأثير حقيقي في تشكيل الرأي العام، توجيه النقاشات الكبرى، وفتح آفاق جديدة للوعي المجتمعي. هؤلاء قد يكونون كتّابًا، إعلاميين، فنانين، أكاديميين أو حتى رموزًا دينية، لكن ما يجمعهم هو قدرتهم على الوصول والتأثير.
غير أن هذا التأثير لا ينبع من الفكر وحده، بل يتطلب أدوات نفوذ مثل المنصات الإعلامية، التمويل، أو الدعم السياسي. لذا، يصبح من الصعب فصل الفكر عن السلطة، أو التمييز بين النخبة الأصيلة والنخبة المصنوعة.
السلطة وصناعة النخبة: من يملك المنصة يملك الصوت
التاريخ مليء بأمثلة لأفراد كانوا ذوي فكر عميق لكنهم لم يجدوا منبرًا ينقل أصواتهم، فظلّوا في الظل. في المقابل، صعد آخرون بسرعة البرق فقط لأنهم حصلوا على دعم رسمي، أو لأن وسائل الإعلام سلطت الضوء عليهم. المنابر الثقافية، البرامج الحوارية، المؤتمرات، الجوائز، كلها أدوات تستخدمها السلطة لترويج أسماء بعينها، تارة باسم “الحداثة” وتارة باسم “الاعتدال” أو “الوطنية”.
وهكذا، لا تنشأ النخبة دائمًا من تفاعل طبيعي مع الجمهور، بل كثيرًا ما تكون انعكاسًا لسياسات انتقائية تهدف لصياغة وعي مجتمعي معين، وتهميش الأصوات الحرّة أو المعارضة.
نخبة الجماهير: حين يصنع الوعي الشعبي رموزه
رغم قوة السلطة، هناك دائمًا نخب تخرج من قلب الشارع. هذه النخب لا تُفرض، بل تُفرز بشكل عضوي من خلال التفاعل الجماهيري. فهناك كتّاب ومفكرون لم يعتمدوا على دعم المؤسسات، بل على الكلمة الحرة التي لامست قلوب الناس.
هذه النخبة غالبًا ما تُولد من رحم المعاناة، وتحظى باحترام شعبي عارم، وتشكّل تهديدًا حقيقيًا للنخب المصنوعة، لأنها تتحدث من موقع الصدق، لا المصلحة. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من الممكن إيصال الصوت دون وسطاء، مما فتح الباب أمام وجوه جديدة كانت مستبعدة من المشهد التقليدي.
لكن… هل يستطيع الفكر الشعبي الصمود؟
رغم وصول العديد من المفكرين المستقلين للجماهير، إلا أن استمرارهم في التأثير ليس سهلًا. فالمواجهة مع النخب المصنوعة قد تتخذ أشكالًا عديدة: حملات تشويه، تغييب إعلامي، حجب كتبهم أو أفكارهم، بل وحتى الملاحقة الأمنية. كما أن غياب التمويل المستدام يعوق مشاريعهم، ويجعل وجودهم هشًا أمام عمالقة الإعلام المموّل.
الإعلام… الحَكم الحقيقي في اللعبة
في العصر الحديث، أصبحت الكاميرا هي من تُقرر من يستحق صفة “نخبوي”. فالشخص الذي يُستضاف مرارًا في البرامج، وتُفتح له صفحات المجلات والصحف، يصبح بمرور الوقت رمزًا مؤثرًا، حتى إن لم يحمل رؤية فكرية واضحة. هذه الآلية الإعلامية تجعل من الإعلام أداة حاسمة في صناعة النخب، بحيث يتم توجيه الجمهور بشكل غير مباشر نحو تقديس أو رفض شخصيات معينة.
والأخطر أن الإعلام لا يكتفي بالترويج، بل يُمارس نوعًا من التهميش الانتقائي، فيُقصي مفكرين حقيقيين عبر تجاهلهم ببساطة. وهنا، تصبح النخبة انعكاسًا لرغبة الجهات المتحكمة، لا لمزاج الجمهور الحقيقي.
تمويل النخبة: بين الدعم الحر والولاء المشروط
من الطبيعي أن تحتاج النخب الفكرية إلى تمويل لتستمر: لنشر الكتب، إقامة الفعاليات، أو حتى للظهور الإعلامي. لكن مصدر هذا التمويل يلعب دورًا جوهريًا. فالتمويل المؤسسي المشروط قد يفرض على النخبة التزامًا غير معلن بتوجهات معينة، أو على الأقل تجنب تناول ملفات بعينها.
في المقابل، النخبة التي تعتمد على دعم شعبي – عبر شراء المؤلفات، أو الاشتراكات، أو التبرعات – تكون غالبًا أكثر حرية في مواقفها، لكنها أقل استقرارًا. وهكذا يبقى التمويل سلاحًا ذا حدين، يُحدد إلى حد كبير هوية وتأثير النخبة.
نخبة الصمت: حين تغيب الأصوات وقت الأزمات
من أخطر الأزمات التي تواجه النخبة، وخاصة في عالمنا العربي، هو صمتها في اللحظات الحرجة. ففي حين تنتظر الشعوب منها أن تكون صوتها في وجه الظلم، نجد كثيرًا من النخب تختفي، أو تكتفي بعبارات فضفاضة لا تحمل موقفًا حقيقيًا. هذا الصمت – سواء بدافع الخوف أو الحفاظ على المصالح – يُفقد النخبة مصداقيتها، ويجعل الناس تعيد النظر في كل ما كانت تؤمن به.
هل يمكن إعادة تشكيل النخبة؟
الإجابة هي: نعم، لكن الأمر ليس سهلًا. النخبة الحقيقية لا تُفرض من فوق، بل تُنتخب من تحت – من تفاعل الجمهور، من احترام العقول، من تاريخ من المواقف الصادقة. لإعادة تشكيل النخبة، نحتاج إلى بيئة تسمح بحرية التعبير، تعددية في وسائل الإعلام، ونظام تعليمي يُعلي من قيمة التفكير النقدي، لا الحفظ والانقياد.
كما أن على الجمهور دورًا محوريًا، إذ لم يعد مجرد مستقبل سلبي، بل أصبح قادرًا على التفاعل والاختيار. كل “إعجاب” أو “مشاركة” أو “متابعة” لمفكر أو إعلامي، هو بمثابة تصويت لصالحه. وبالتالي، فإن النخبة اليوم تُبنى بأصابع الجمهور كما تُبنى بأدوات السلطة.
ساحة معركة مفتوحة
في نهاية المطاف، تبقى النخبة الفكرية ساحة معركة مفتوحة بين من يراها أداة للتنوير، ومن يسعى لجعلها وسيلة للتطويع. الجماهير تملك القدرة على فرض رموزها، لكن ذلك يتطلب وعيًا، صبرًا، ورفضًا مستمرًا للتزييف.
أما السلطة، فإنها تواصل سعيها لتشكيل النخب بما يخدم مصالحها، مستخدمة الإعلام والمال كأدواتها المفضلة. وبين هذا وذاك، يبقى الأمل في جيل جديد من المفكرين الأحرار، وجمهور لا يُخدع بالبريق، بل يبحث عن الجوهر.
هذا المقال ينتمي إلى سلسلة “آراء وتحليلات”، حيث نطرح أسئلة جوهرية ونفكك المسلمات، نحو فهم أعمق لواقعنا العربي.