من يصنع النخبة الفكرية؟ الجماهير أم السلطة؟
لطالما ظل مفهوم “النخبة” محورًا للنقاش والسجال، بين من يراه حجر الأساس في نهضة الأمم، ومن يعتبره انعكاسًا لهيمنة السلطة ومراكز النفوذ. يثور سؤال جوهري هنا: من الذي يصنع النخبة الفكرية؟ هل هي نتيجة تفاعل جماهيري واعٍ؟ أم صنيعة نُسجت خلف الكواليس، ضمن دوائر النفوذ والقرار؟
تعريف النخبة: فكر نقي أم سلطة ناعمة؟
النخبة ليست مجرد مجموعة من المثقفين أو حملة الشهادات العليا. إنها الفئة التي يُنظر إليها باعتبارها صانعة للرأي، مؤثرة في الوعي العام، وموجِّهة للنقاشات الكبرى داخل المجتمعات. قد تضم مفكرين، فنانين، إعلاميين، قادة رأي، بل وحتى رموز دينية.
لكن السؤال الأهم: هل الفكر وحده كافٍ لصناعة النخبة؟ في الواقع، لا. ما يحدد بروز هذه الفئة هو النفوذ، أي القدرة على الوصول إلى المنصات، والتأثير في عقول الناس، والدخول إلى دوائر القرار.
السلطة وصناعة الوجاهة الفكرية
في كثير من السياقات، لعبت السلطة دورًا حاسمًا في صناعة النخبة. عبر دعم مباشر أو غير مباشر، تصنع النوافذ الإعلامية وجوهًا مألوفة، وتعيد تكرارها حتى تصبح “مرجعية”.
في إحدى الندوات المغلقة، قال شخصية يُرمز له بـ(ك،م): “لقد صنعوا مفكرًا خلال شهرين فقط. كتبوا عنه، استضافوه، ومنحوه الجوائز”. هذه الجملة تلخص ديناميكية السلطة في صناعة النخبة.
مراكز النفوذ قد توفّر الدعم المالي، المساحات الإعلامية، الحماية القانونية، أو ترويجًا ضمنيًّا في الفضاء الثقافي. وحينها، تبدأ النخبة في التشكّل وفق أجندة السلطة، لا وفق احتياجات الوعي العام.
الجماهير وصوت الشارع
على الضفة الأخرى، وُجدت نخبة خرجت من بين الناس، دون دعم رسمي، بل في مواجهة السلطة أحيانًا. كُتاب ومفكرون وإعلاميون نجحوا في نيل احترام الجماهير بفضل موقفهم، وليس بفضل شهرتهم أو ظهورهم المتكرر.
شخصية مثل (ص،ر) بدأت كمدون بسيط، لكنه مع الوقت، فرض حضوره الفكري من خلال مقالات جريئة وقراءات معمقة لواقع مأزوم. حصد ثقة الناس لأنه تحدث بلغتهم، لا بلغة النخبة التقليدية.
لكن هذا النوع من النخب يواجه تحديات ضخمة: حملات تشويه، غياب التمويل، إقصاء متعمد، وأحيانًا مضايقات أمنية. لذلك، فإن صعوده يكون بطيئًا، محفوفًا بالعقبات.
السلطة الإعلامية: المصنع الأكبر للنخبة
في عصر الصورة والهاشتاغ، أصبح الإعلام هو المصنع الأول للنخبة. ما يُعرض على الشاشات، يُصدق. من يُستضاف باستمرار، يُفترض أنه “خبير”. ومن يتكرر صوته، يتحول إلى مرجع حتى لو كان يفتقر للمضمون.
وسائل الإعلام لم تعد ناقلة للخبر فقط، بل أصبحت صانعة للرموز، موجهة للرأي، وقادرة على إقصاء أو تمجيد أي صوت وفق مصالحها. وهذا التداخل بين الإعلام والنفوذ السياسي أو المالي، يفرز نخبة غير مستقلة فكريًا.
دور التمويل في تشكيل النخبة
التمويل ليس مجرد أداة دعم، بل أصبح أداة توجيه أيضًا. حين تُمنح شخصية (ع،ب) منحة من جهة ذات أجندة واضحة، هل يمكن أن يحتفظ بحياده الفكري؟
النخبة التي تعتمد على مصادر تمويل مشروطة، تجد نفسها عاجزة عن مناقشة قضايا معينة، أو مجبرة على تبنّي مواقف قد لا تعبّر عنها أصلًا. على العكس، من يعتمد على دعم جماهيري، أو تمويل ذاتي، يستطيع الحفاظ على استقلاليته، وإن كانت مسيرته أكثر صعوبة.
أزمة الصمت وقت المفاصل الحاسمة
من أكثر مظاهر فقدان الثقة في النخبة، صمتها في اللحظات المفصلية. حين تشتد الأزمات، يبحث الناس عن صوت يفكر معهم، يواسيهم، يشرح لهم المشهد. لكن كثيرًا من رموز النخبة يختفون فجأة، حفاظًا على مصالحهم، أو تماهيًا مع الخطاب السائد.
في موقف شهير، عقب أزمة سياسية حادة في بلد عربي، اختفى صوت (م،ز) وهو من كبار المفكرين، بينما ظهر أصغر المدونين ليقود النقاش العام. هذه المفارقة تُظهر أن النخبة لا تعني الحجم أو التاريخ، بل الحضور وقت الحاجة.
هل يمكن إعادة تشكيل النخبة؟
نعم، يمكن. لكن ليس بالقرارات الفوقية، بل عبر مناخ صحي يتيح التنافس الحر. المطلوب هو:
- شفافية في المنابر: لا يُقصى صوت لمجرد مخالفته للسلطة.
- حرية إعلامية حقيقية: تتيح ظهور آراء مختلفة دون تهديد أو تشويه.
- فرص متكافئة: بحيث يكون الصعود مرتبطًا بالكفاءة لا بالعلاقات.
- وعي جماهيري: لأن الجمهور أيضًا مسؤول عن من يمنحه صوته واهتمامه.
النخبة الحقيقية لا تُمنح.. بل تُنتخب ضمنيًا
في زمن الإنترنت ووسائل التواصل، لم يعد تشكيل النخبة حكرًا على السلطة. كل فرد يضغط زر “مشاركة”، يُسهم في صناعة النخبة الجديدة. المسألة لم تعد تتعلق بمن لديه منصة، بل بمن يملك الصدق، والعمق، والاستمرارية.
وحتى في وجه القمع والتهميش، تظل الكلمة الحرة قادرة على اختراق الجدران. فالنخبة ليست من يُسلّط عليهم الضوء، بل من يصنعون الضوء بجرأتهم.