حينما تصبح الدولة سلطة لا شريكًا

دولة لا تسمعك.. هل ما زالت تمثلك؟
في الزحام اليومي للحياة العربية، حيث الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تتزايد، يتولد سؤال مؤلم في أعماق المواطن: “هل أنا مرئي فعلًا من قبل دولتي؟”. ليست المسألة مجرد شكوى من نقص في الخدمات أو شكوك في السياسات، بل إحساس وجودي بالاغتراب داخل الوطن ذاته.
حين تصبح الدولة سلطة لا شريكًا
في كثير من الدول، يُفترض أن تكون العلاقة بين المواطن والدولة تشاركية، تقوم على الثقة، الشفافية، والتمثيل. ولكن حين تتحول الدولة إلى سلطة عليا لا تسمع سوى صوتها، ولا تستوعب إلا مصالح نخبتها، يشعر المواطن أن وجوده لم يعد ذا قيمة إلا كمجرد رقم في الإحصاءات أو صوت في الانتخابات.
الأكثر قسوة أن يمر المواطن بتجربة شخصية مؤلمة داخل مؤسسات الدولة، كأن يذهب ليُعالج ابنه في مستشفى حكومي فيُقابل بالإهمال، أو أن يُسجن ظلماً دون محاكمة عادلة، أو أن يُصادر رزقه فجأة بلا تبرير. في تلك اللحظات، تنهار آخر خيوط الانتماء.
الإحساس بالتجاهل يبدأ من التفاصيل الصغيرة
ليس على الدولة أن ترتكب فظائع كبرى كي يفقد المواطن الثقة. أحيانًا، تكفي نظرة متعجرفة من موظف حكومي، أو بيروقراطية قاتلة تعطل إنجاز معاملة بسيطة، أو حتى غياب شبكة صرف صحي عن حي فقير منذ عشر سنوات.
كل هذه التفاصيل، حين تتكرر وتُقابل بصمت رسمي أو خطاب إنكاري، تتحول إلى رسالة واضحة: “أنت لست أولوية.. وجودك لا يُحرّك ساكنًا”.
حين يتحدث الإعلام بلغة لا يفهمها المواطن
الإعلام الحكومي في كثير من الدول العربية يغرد خارج السرب. فبينما يُصارع الناس الفقر والبطالة، يظهر المذيع مبتسمًا ليبشر بمستقبل مشرق واستثمارات عملاقة. هذا الانفصام لا يُطمئن أحدًا، بل يخلق جدارًا نفسيًا بين الدولة والناس.
والنتيجة؟ يتجه المواطن نحو منصات التواصل ليبحث عن الحقيقة، وهناك ينهال عليه سيل من الشائعات والغضب، في ظل غياب البديل الإعلامي الصادق، فيشعر بالضياع.
الدولة التي تخشى صوت المواطن، لا تحترمه
في بعض الأنظمة، يُنظر إلى النقد كتهديد، لا كفرصة. تُغلق الصحف، تُحجب المواقع، يُعتقل المدونون. هذا القمع لا يصنع دولة قوية، بل يصنع مجتمعات مشوهة تعيش بالخوف أو النفاق أو الصمت.
عندما يغيب صوت المواطن، تغيب الرقابة الشعبية، وتغيب المحاسبة، وتفتح أبواب الفساد والتعسف على مصراعيها. الدولة التي لا تستمع، تنعزل.. والدولة المعزولة تسقط من حسابات الناس.
ما الذي يعيد الثقة؟
- صوت المواطن أولًا: فتح قنوات حقيقية للمشاركة الشعبية، من مجالس محلية فعالة إلى إعلام حر لا يُدار من خلف الستار.
- عدالة لا تميز: لا فرق بين غني وفقير، أو مسؤول وعادي. تطبيق القانون على الجميع هو بداية المصالحة.
- شفافية بلا تجميل: الاعتراف بالمشاكل ليس ضعفًا. بل هو أول خطوة في حلها. الشعب لا يطلب الكمال، بل الصدق.
- خدمات تحترم الإنسان: حين يشعر المواطن أن كرامته مصونة داخل المرفق العام، يستعيد ثقته بأن هناك دولة ما تزال تمثله.
من مشاهد الواقع.. إلى ضرورة الإصلاح
حين يُطلب من الناس الصبر على ارتفاع الأسعار، بينما تُنفق الملايين على فعاليات فارهة، يشعر المواطن أن الأولويات قد ضاعت. وحين يُقال له أن هناك مشاريع كبرى قادمة، وهو لا يجد وظيفة لأطفاله الخريجين، تتآكل الثقة.
الإصلاح لا يبدأ من أعلى الهرم فقط، بل من القاعدة أيضًا. من الأحياء المهملة، من أصوات الناس التي لا تجد آذانًا صاغية. الدولة التي ترغب بالبقاء، لا بد أن تعيد اكتشاف مواطنيها، لا أن تهرب منهم.
هل ننتظر الانفجار؟ أم نبدأ الإصلاح؟
النسيان خطر، لكن التجاهل أخطر. حين تُجمع الملايين على شعور التهميش، يصبح الاحتقان قنبلة موقوتة. والتاريخ الحديث مليء بأمثلة لدول ظنت أن الصمت يعني الرضا، فإذا بها تستيقظ على صوت الجماهير في الشوارع.
الإصلاح ليس ترفًا. هو ضرورة وجودية لأي دولة تريد أن تبقى. والمصالحة مع الناس تبدأ من الاعتراف بأن صوتهم ليس ضجيجًا.. بل نبض الحياة.
الخاتمة: الدولة التي تراهن على الخوف، تخسر
المواطن لا يطلب الكثير. كل ما يريده أن يشعر بأنه مسموع، مرئي، مهم. أن يجد في دولته من يحميه لا من يتجاهله، من يُشركه لا من يُقصيه.
الدولة التي لا تسمع صوت شعبها، لا تمثله حقًا. وحين تفقد التمثيل، تفقد الشرعية.. ولو بقيت قائمة على الورق.