لماذا تتجاهل الدولة شعوبها حتى تثير غضبهم ؟

في أزقة المدن، وعلى أرصفة القرى، وفي طوابير المواصلات والمستشفيات، يتردد سؤال ثقيل لكنه صادق: “لماذا لا نشعر بالدولة إلا عندما تطلب منا شيئاً؟ أين هي عندما نحتاجها؟” هذا الشعور الذي يتفاقم يومًا بعد يوم يعكس أزمة أعمق من مجرد ضعف خدمات أو تأخر قرارات. إنها أزمة في العلاقة بين المواطن والدولة، حيث يشعر الكثيرون بأن أصواتهم لا تُسمع، وآلامهم لا تُرى، واحتياجاتهم تُهمل في مقابل مطالب تُفرض عليهم دون نقاش.
حين يصبح الصمت شكلاً من أشكال الاحتجاج
غالباً ما يُفهم الاحتجاج في بعض المجتمعات على أنه تظاهر أو عصيان. لكن الحقيقة أن ملايين المواطنين يمارسون نوعًا آخر من الاحتجاج: الصمت. لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع، لا يشاركون في الحوارات المجتمعية، لا يثقون في الإعلام الرسمي، ويكتفون بالمراقبة الصامتة.
ذلك الصمت ليس رضا، بل رسالة عميقة مفادها: “أنتم لا تستمعون، فلماذا أتكلم؟” إنه الصمت الذي ينبع من اليأس، من الشعور المتراكم بالخذلان، من إدراك أن الكلمات تُقال لكنها لا تُستقبل، وأن الشكاوى تُسجل لكنها لا تُحل. وهو صمت خطير، لأنه ليس هدوء استقرار، بل هدوء ما قبل الانفجار.
الإحساس باللامرئية… أزمة ثقة عميقة
في المجتمعات الحيّة، يشعر المواطن أن صوته مسموع، أن رأيه يُحسب له حساب، وأن قرارات الدولة تنبع من نبض الشارع. لكن حين تُصاغ السياسات بمعزل عن الناس، وتُنفذ من أعلى دون حوار أو شفافية، يتولد شعور عام بأن المواطن مجرد رقم، أو حتى عبء.
وما يزيد الطين بلة هو شعور الناس بأنهم لا يُمثلون. فحين يُعيَّن أشخاص في مناصب حساسة دون كفاءة، فقط لأنهم مقرّبون من صناع القرار، يشعر المواطن أن النظام لا يعكس إرادته. حينها تصبح الدولة أشبه بجهاز إداري مغلق على نفسه، لا علاقة له بالناس سوى عند فرض الضرائب أو جمع الغرامات.
الخدمات العامة… مرايا الانفصال
لا يحتاج المواطن إلى كلمات مطنبة عن التنمية، بقدر ما يحتاج إلى تجربة بسيطة تحترم كرامته. حين يذهب إلى مكتب حكومي ويُعامل بازدراء، أو لمستشفى حكومي ويجد نقصًا في العلاج، أو لمدرسة حكومية لا تليق بأطفاله، يشعر أن الدولة لم تعد تنتمي إليه.
الخدمات العامة ليست مجرد أداء وظيفي، بل هي الملمح اليومي لحضور الدولة. وكل تجربة سلبية في هذه الخدمات هي رسالة نفسية تقول: “أنت لست من أولوياتنا”. ولا شيء يبعث على الغضب أكثر من هذا الشعور بأنك غير مرئي، أن معاناتك لا تُدرج في أولويات القرار.
الإعلام الحكومي… من صوت الدولة إلى صدى السلطة
يُفترض بالإعلام الرسمي أن يكون مرآة تعكس المجتمع، وناقلًا لنبض الناس. لكنه في معظم الأحيان يتحول إلى منبر للترويج، يُروّج لما تريده السلطة، ويغفل ما يعيشه المواطن.
الشخصية “ك” مثلاً، وهو أحد سكان المناطق المهمّشة، يقول إنه لا يرى حياته اليومية في التلفاز، بل يرى واقعًا مثاليًا لا يمتّ له بصلة. هذا الانفصال بين الصورة الإعلامية والحقيقة المعاشة يولّد حالة من السخرية المريرة، ويدفع المواطن إلى البحث عن الحقيقة خارج حدود الإعلام المحلي، أحيانًا في مصادر غير موثوقة.
المشاركة المغيبة… المواطن كشاهد لا كمشارك
تُتخذ قرارات مصيرية أحيانًا دون إشراك الشعب، بل دون حتى إعلامه بشكل كاف. يُقصى المواطن عن المشاركة الفعلية في الشأن العام، فلا يُستشار في الخطط، ولا تُشرح له التغييرات، ولا يُمنح الحق في مساءلة صانعي القرار. هذه البيئة تولّد الاستبعاد، وتُغلق الأبواب أمام الشعور بالانتماء.
الدولة التي لا تفتح قنوات حوار حقيقية مع شعبها، تُغلق الباب أمام الثقة، وتفتح الباب أمام الغضب. ومتى ما غاب الشعور بالشراكة، تحول الولاء الوطني إلى واجب بارد، بلا دفء الانتماء الحقيقي.
حين تتفاجأ الدولة بغضب الناس
غالبًا ما تُصدم الدول حين يندلع احتجاج فجائي أو غضب شعبي واسع. لكنها تغفل أنها كانت تتجاهل إشارات يومية لسنوات. المواطن لا يثور فجأة، بل يتراكم عليه الشعور بالتجاهل، حتى يصل إلى نقطة الانفجار.
الفرد “ع” مثلاً، أحد شباب المدن، لم يكن يومًا ناشطًا سياسيًا، لكنه يقول إن إحساسه بالتجاهل والتمييز وسوء المعاملة جعله في لحظة ما يتمنى أن “ينهار كل شيء”، لا لأنه عدائي، بل لأنه لم يعد يرى أملًا في التحسن. وهذا الإحساس حين يتكرر في آلاف النفوس، يصنع موجة لا يمكن احتواؤها.
ماذا يمكن أن يحدث لو استمعت الدولة؟
- بناء الثقة: عندما يشعر المواطن أنه مسموع، تزدهر الثقة، وتصبح الدولة أقوى بدعم الناس لا بخوفهم.
- تحسين الخدمات: الإصغاء إلى الملاحظات الميدانية يساعد على تطوير حقيقي في التعليم، الصحة، النقل، وغيرها.
- تعزيز الانتماء: الشعور بأن صوتك مسموع يزيد من الإحساس بالمواطنة والانتماء للوطن.
- تفادي الأزمات: الدولة التي تصغي باستمرار، لا تتفاجأ بالأزمات، لأنها كانت تُراقب نبض المجتمع.
لا دولة قوية دون شعب مسموع
المواطن لا يطلب المستحيل، بل يطلب فقط أن يُعامل كإنسان. أن يُستمع إليه قبل أن يغضب، وأن يُنظر له كشريك في بناء الوطن، لا كمتلقي للأوامر. الدول التي تستمع تبقى، وتلك التي تصم آذانها تُفاجأ دائمًا بثمن التجاهل.
وفي النهاية، لا تُقاس قوة الدول بعدد أبنيتها أو مشاريعها، بل بمدى شعور شعوبها بالكرامة، والعدالة، والانتماء. فالدولة التي تُصغي، تُدرك، وتبني مع المواطن علاقة حقيقية… هي الدولة التي تبقى.