من يقود من؟ حين يتحول الإعلام إلى سائق خفي لعقولنا

في زحام الأخبار والتحديثات والمحتوى المرئي والمسموع الذي ينهال علينا كل لحظة، يظن كثيرون أنهم يملكون حرية الاختيار. يقولون لأنفسهم: “أنا أتابع ما يعجبني، وأقرأ ما يثير اهتمامي، وأشارك ما يعبر عن قناعاتي”. لكن الحقيقة الأكثر إرباكًا هي أن هذه “الاختيارات” في كثير من الأحيان ليست نابعة منّا، بل صُنعت لأجلنا. في الخلفية، ثمة من يتحكم بالمشهد من وراء الستار، يدفعنا لنرى ما يريد، ونشعر بما يناسبه، ونفكر في الاتجاه الذي يخدم مصالحه. واسم هذا اللاعب الخفي هو: الإعلام.
هل الإعلام ناقل أم صانع؟
منذ نشأة الصحافة، والإعلام يُنظر إليه كجسر يصل بين المجتمع والمعلومة. لكن هذا الجسر لم يعد محايدًا كما كان يُفترض. أصبح أداة ذات سطوة، توجه وتؤثر وتُعيد تشكيل وعي الشعوب. فهل ما نتابعه هو مجرد نقل للواقع؟ أم أنه إنتاج جديد، يصاغ ويُعدّ ويُعاد تقديمه بما يخدم أجندات وأولويات لا نعرفها تمامًا؟
ما يزيد المسألة تعقيدًا أن التطور التكنولوجي لم يُحرّر الإعلام، بل زاده تلوّنًا. فالمعلومة لم تعد فقط تأتي من شاشة التلفاز أو من أعمدة الجرائد، بل من هواتفنا، من إشعارات التطبيقات، من منشورات الأصدقاء، ومن منصات غامضة المصدر.
الإعلام وتوجيه الانتباه: لعبة انتقائية
لنتأمل هذا المثال: حادث يحدث في إحدى المدن. قناة معينة تنشر عنه تقريرًا مدته 15 دقيقة مع لقطات درامية وموسيقى حزينة وتعليق عاطفي. قناة أخرى تذكره في سطر ضمن نشرة الأخبار، وثالثة تتجاهله تمامًا. ما الذي يحدث هنا؟ الحقيقة ذاتها يتم تناولها بطرق مختلفة، ما يؤدي إلى تأثيرات نفسية وفكرية مختلفة لدى الجمهور.
هكذا يتحول الإعلام إلى “مُوجّه انتقائي للحقيقة”. لا يقتصر دوره على الإخبار، بل يتعداه إلى التأطير: كيف نرى الخبر، كيف نشعر حياله، وأحيانًا حتى من نلوم أو نُبرّئ. في لحظة ما، لا يصبح السؤال “ماذا حدث؟” بل “لماذا قُدم لي بهذا الشكل؟ وما الذي لم يُقال؟”
الخوارزميات: الرقابة الحديثة
في الماضي، كان المحرر الصحفي يقرر ما يُنشر في الصفحة الأولى. أما اليوم، فهناك كائن رقمي غير مرئي يُسمى “الخوارزمية” يتولى هذه المهمة. بناءً على بياناتك: عمرك، موقعك، تفاعلاتك، أصدقاؤك، وقت استخدامك للهاتف، تُقرر المنصة ما يجب أن تراه. هذه التصفية المستمرة تُنتج ما يُعرف بـ”فقاعة الرأي”، حيث لا ترى إلا من يشبهك، ولا تسمع إلا ما يعزز قناعاتك.
والمؤلم هنا أن هذه الفقاعة لا تشعرك بانغلاقها، بل تعطيك انطباعًا خادعًا بأنك على اطلاع شامل. في الحقيقة، أنت ترى نسخة محددة للغاية من العالم، تم تصميمها لتبقيك مشدودًا للشاشة لأطول وقت ممكن.
النتائج: وعي مشوش ومجتمعات منقسمة
حين تتكرر نفس الفكرة من مصادر متعددة، تبدأ في التحول من “رأي” إلى “حقيقة”. وعندما يرى المستخدم أن الجميع حوله يشاركون نفس الرأي، يفترض أنه الرأي الصحيح. وهذا ما يؤدي إلى التطرف في المواقف، والتشكيك في كل رأي مخالف، وغياب مساحة الحوار.
تخيّل مجتمعات بأكملها تتابع نسخًا مختلفة من الواقع. مجموعة ترى حدثًا ككارثة، وأخرى تعتبره إنجازًا، وثالثة لا تعرف بحدوثه أصلًا. كيف يُمكن أن يلتقوا على فهم مشترك أو على رؤية موحدة للمستقبل؟
أين يقف المشاهد؟ هل هو حر فعلاً؟
لا يمكننا إنكار مسؤولية الفرد في هذه المنظومة. فبقدر ما تلعب المنصات دورًا في التوجيه، يبقى للمستخدم دور في الكبح أو الانخراط. لكن، كم منا يطرح السؤال: “لماذا أعيد مشاركة هذا الخبر؟ من المستفيد من انتشاره؟ هل تحققّت من مصدره؟”
الإجابة في الغالب: لا أحد. نُشارك بدافع العاطفة أو الانفعال أو حتى التسلية، غير مدركين أن كل تفاعل بسيط يُسهم في بناء سردية إعلامية أكبر.
الإعلام ليس عدوًا… لكن احذر أن يصير سيدك
المشكلة لا تكمن في الإعلام ذاته، بل في كيفية تعاطينا معه. الإعلام الجيد موجود. هناك منصات جادة، صحفيون نزيهون، تقارير استقصائية تكشف الحقائق، ومبادرات للتحقق من الأخبار الكاذبة. لكن للأسف، هذا الإعلام لا يتصدر المشهد، لأنه لا يُدرّ أرباحًا كما تفعل الأخبار المثيرة أو القصص الملفقة.
ولذلك، فإن الحل لا يبدأ من تغيير الخوارزميات أو تعديل السياسات، بل من داخل كل شخص. أن تُصبح أنت مرشح الأخبار في ذهنك، أن تتعلم التفكير النقدي، أن تسأل قبل أن تصدق، أن تُعيد النظر بدلًا من الانجراف مع التيار.
د،ر: التجربة التي لا تُنسى
منذ عامين، كان د،ر – شاب عربي – يتابع الأخبار عبر هاتفه الذكي فقط. كان يشعر بالغضب يوميًا، كل خبر يستفزه، وكل منشور يجعله يعتقد أن العالم ينهار. إلى أن قرر إجراء تجربة: أن يتوقف عن استخدام مواقع الأخبار والمنصات الاجتماعية لمدة أسبوع.
النتيجة كانت مذهلة. لم يشعر بالجهل، بل شعر بالتحرر. أدرك كم كان مشحونًا بأخبار لم تؤثر في حياته بشكل مباشر، وكم كانت مشاعره مستنزفة في معارك لا تخصه فعليًا. ومنذ تلك التجربة، أصبح أكثر وعيًا وانتقائية في ما يقرأ ويصدق.
الخلاصة: من يُمسك بالريموت؟
ربما لا نملك السيطرة الكاملة على كل ما نُشاهده أو نقرأه، لكننا نملك دائمًا الخيار في كيف نتفاعل معه. أن تكون مدركًا لما يُبث لك، هو أول خطوة للخروج من دائرة التوجيه الخفي. الإعلام لن يتوقف عن محاولته لقيادتك، لكنك تستطيع أن تكون السائق.
في النهاية، ليس السؤال: “ماذا يقول الإعلام؟” بل “لماذا يُقال لي هذا الآن؟ ولماذا بهذا الشكل؟” فقط حين نُكثر من طرح هذه الأسئلة، نستعيد زمام الوعي في عالم مليء بالضجيج.