اللقاء الاسطوري الذي لم يكن في الحسبان

اللقاء الاسطوري الذي لم يكن في الحسبان
شارك موضوع الخبر
Facebook Twitter Telegram WhatsApp
📢 شارك القصة مع من تحب

في أحد الأحياء الشعبية، حيث الضجيج لا يهدأ والزمن لا يرحم، جلست امرأة مسنّة على رصيف أمام محطة المترو. لم تكن تبيع شيئًا، ولم تطلب صدقة. فقط جلست هناك، تحدّق في الأرض وكأنها تنتظر أن تبتلعها. كانت ترتدي عباءة سوداء متواضعة، ويداها ملتفتان حول كيس صغير، لا يبدو أن به أكثر من كسرة خبز وبعض الذكريات.

الناس كانوا يمرّون من حولها، مستعجلين، منشغلين، كما لو كانت جزءًا من الرصيف نفسه. لا أحد يلتفت، لا أحد يتساءل. لكن أحدهم، شاب عشريني يُدعى خ.م، كان في طريقه لمقابلة عمل تأخر عليها بالفعل. ورغم السرعة، ورغم القلق، فإن شيئًا ما في داخله جعله يتوقف. نظر لها للحظات، وكأن صوته الداخلي صاح: “اسألها”. اقترب منها بهدوء وقال: خالتي، محتاجة حاجة؟

الدمعة التي أطلقت الحكاية

رفعت رأسها ببطء، وابتسمت كما لو نسيت كيف تُبتسم. ثم همست بصوت مخنوق: “لا يا ابني… بس نفسي أشوف بنتي قبل ما أموت.” جملة واحدة كانت كفيلة بأن توقف دقات قلب خ.م للحظة. جلس بجوارها دون تفكير، وسألها عن قصتها، وكأن جزءًا منه كان يعرف أن هذه اللحظة ستغيّر شيئًا في داخله للأبد.

قالت له إن اسمها أ.م، وإنها فقدت زوجها منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت تعيش مع ابنتها الوحيدة، لكن بعد زواجها وانتقالها إلى محافظة بعيدة، انقطعت أخبارها تمامًا. لا تعرف كيف تتواصل معها، لا تمتلك هاتفًا، ولا تجيد القراءة أو الكتابة. كل ما كانت تفعله هو الجلوس يوميًا على نفس الرصيف، علّ القدر يعيد لها شيئًا فقدته ذات يوم، أو يرى أحد وجهها ويتعرف عليها.

رحلة البحث عن ابنة ضائعة

أخذ خ.م التفاصيل القليلة التي استطاعت أن تذكرها. لم تكن هناك أرقام، ولا عناوين واضحة، فقط أسماء قديمة وذكريات مبعثرة. رغم ذلك، عاد لمقابلته في الشركة، لكنه لم يستطع التركيز. كان كل ما يفكر فيه هو تلك العباءة السوداء، وتلك الجملة التي قالتها له “نفسي أشوف بنتي”.

في اليوم التالي، عاد لنفس المكان، وجدها تجلس بنفس الوضع، بنفس النظرة. قرر أن يستخدم ما بيده: هاتفه ومواقع التواصل. التقط لها صورة بسيطة، وكتب منشورًا مؤثرًا يحكي فيه قصتها، داعيًا أي شخص يتعرّف عليها أو يعرف شيئًا عن ابنتها أن يتواصل معه.

العالم يرد

لم تمر 48 ساعة حتى انفجرت التعليقات والرسائل. “أنا أعرفها”، “دي كانت جارتنا في الحارة القديمة”، “هي أم نادية؟!”، وصولًا إلى الرسالة التي غيّرت كل شيء، من فتاة تُدعى ن.ك قالت فيها: “أنا نادية… دي أمي؟! فينها؟!”

تواصل خ.م معها فورًا، وتأكد من التفاصيل. نعم، كانت هي. وأكدت أنها حاولت البحث عن أمها كثيرًا، لكنها فشلت بعد انتقالها من بيت قديم لآخر، وانقطاع التواصل تمامًا. كانت تظن أن أمها لا تزال في نفس المكان القديم. وحين علمت أنها تقضي يومها على الرصيف تنتظرها، انهارت بالبكاء.

اللقاء المعجزة

في الليلة ذاتها، قطعت ن.ك أكثر من 150 كيلومترًا للوصول إلى العاصمة. وصلت قرب منتصف الليل، واتجهت إلى محطة المترو التي وصفها لها خ.م. كانت أ.م لا تزال هناك، عيناها نصف مغلقتين، وجسدها تعب من الانتظار.

وفجأة، صرخت الفتاة: “أمييي!”، ونهضت العجوز ببطء، عيناها لا تصدقان. وعناق طويل بدأته الدموع قبل أن تبدأ الأذرع. عناق شهد عليه العابرون الذين تحلقوا حول المشهد، يصفقون ويبكون، وكأن كل واحد منهم استرجع فقدًا ما، أو حلمًا ضائعًا.

أما خ.م، فوقف جانبًا، لا يحمل شيئًا إلا ابتسامة واسعة وعينين تلمعان. لم يربح شيئًا ماديًا، لكنه شعر أنه أنقذ حياة، وربما أكثر.

حياة جديدة تبدأ

انتقلت أ.م للعيش مع ابنتها، وبدأت تعيش حياة طبيعية، محاطة بأحفادها الذين لم ترهم من قبل. أما خ.م، فحصل على عرض عمل من إحدى المؤسسات الإعلامية التي أعجبت بتصرفه وبتعاطف الجمهور معه. لقد أصبحت قصته أيقونة على وسائل التواصل، ومصدر إلهام لآلاف المستخدمين.

والرصيف؟ أصبح اليوم خاليًا من جسدها، لكنه لا يزال يحمل ذكرى عناق أسطوري أعاد الروح لأسرة كانت على وشك الاندثار.

لماذا نحتاج أن ننتبه؟

ربما تمرّ يومًا ما بشخص مثل أ.م. تجلس بصمت في أحد الشوارع، تذوب وسط الزحام، وتخفي خلف ابتسامتها المنكسرة وجعًا لا يُرى بالعين. لا تملك أن تحل كل مشكلتها، لكنك تملك أن تسأل، أن تُنصت، أن تمنحها لحظة من وقتك.

ربما، دون أن تدري، تصبح أنت البطل في قصة أخرى تُروى بعد سنوات. قصة لا تتطلب مالًا ولا شهرة، بل فقط إنسانية لم تمت.

رسالة أخيرة

نحن لا نحتاج أن ننتظر مأساة لتُوقظ قلوبنا، ولا “تريندًا” لنتحرك. يكفي أن نمتلك قدرة على أن نرى من لا يُرى، ونسمع من لا يُسمع. ففي كل شارع، وكل زاوية، هناك قصة تنتظر من يمد لها يدًا، لا بالكلام، بل بالفعل.

هل مررت يومًا بـ “أم محمود” أخرى؟ لا تتركها تمر. توقّف، اسأل، واستمع… فقد تكون البداية لنهاية وجع، وبداية حياة.

📢 شارك القصة مع من تحب
59 / 100 نتيجة تحسين محركات البحث
شارك موضوع الخبر
Facebook Twitter Telegram WhatsApp

اترك تعليقًا أو أرسل موضوعًا أو قصة