ثمن الرغيف الأخير: حين اختار الجوع أن ينتصر على الكرامة

في زقاقٍ ضيّقٍ من أزقة إحدى العشوائيات المنسية في مدينة عربية، يعيش “العم ح”، رجل تجاوز السبعين، يحمل على وجهه خطوطًا حفرها الزمن، وعلى كتفيه ثقل سنوات من الكدح. لم يكن يومًا بطّالًا، ولم يطلب من أحد شيئًا. قضى حياته نجارًا بسيطًا، يفتخر بأنه لم يمد يده إلا لمطرقة أو مسمار. لكنه اليوم، يجد نفسه في معركة شرسة لا ضد العمر أو المرض، بل ضد الجوع… وضد فقدان الكرامة.
الصفعة التي لم تُنسَ
ذات صباح شتوي قارس، خرج العم ح من غرفته الخشبية التي تفتقر إلى التدفئة، قاصدًا فرن الخبز في الحارة المجاورة. في جيبه جنيهين، بالكاد يكفيان لأربعة أرغفة. لكن الأسعار قد تغيرت، وصار الرغيف أغلى. حين وصل إلى الطابور، أخبره البائع ببرود: “الرغيف بجنيه يا حاج… تاخد اتنين بس”.
توسل العم ح، حاول أن يشرح له أن لا دخل له، وأنه وحيد، لا معيل له. لكن البائع ضاق صدره وقال بازدراء: “زمن الطيبة راح… دور على جمعية خيرية.” لم تكن هذه أقسى الكلمات، بل ما سمعه من سيدة تقف خلفه: “اللي زيه مكانه في دار عجز، مش هنا وسط الناس.”
كأن الزمن توقف للحظة. لم يُصفع العم ح بيده، بل بكلمات جرحت كرامته أكثر من أي شيء. حمل رغيفين فقط، ومضى بصمتٍ مثقلٍ بالهزيمة.
عشاء من دموع
في غرفته، أشعل مصباح زيت قديم، جلس أمام طاولة خشبية متهالكة، وعليها نصف رغيف وخبز يابس. أخرج صورة زوجته الراحلة “أم ح”، وحدّق فيها طويلاً، ثم تمتم بصوت مرتجف: “ك، فاكرة كنا بنقول بكرا أحلى؟ بكرا نفسه ما بقاش عايز ييجي.”
لم يأكل، لم يشرب، فقط جلس يتأمل الرغيف وكأنه خصمه. ثم أغمض عينيه واستسلم لنوم قسري، كأن جسده لم يعد يملك طاقة حتى للجوع.
زيارة غيّرت كل شيء
في اليوم التالي، طرق الباب شاب اسمه “ع”، صحفي شاب يعمل في جريدة إلكترونية محلية. سمع قصته من بائع خضار، وقرر زيارته دون موعد. دخل الغرفة، فوجئ بالبساطة، وبالعينين اللتين تحملان حزنًا ثقيلًا.
أجرى معه حديثًا مطوّلًا، لا لأجل الإثارة الصحفية، بل بدافع إنساني. أراد أن يكون صوته، أن يحوّل حكاية مؤلمة إلى دعوة للتغيير. العم ح لم يتكلم كثيرًا، لكنه حين تكلم، روى كل شيء… كأنه يفرغ وجعه أخيرًا.
حين يتحول الخبر إلى هبة
في اليوم التالي، نُشر التقرير بعنوان: “كبار في الظل: قصة العم ح الذي جاع بكرامة”. أُرفقت به صورة مؤثرة لوجهه، ونظراته التي لا تُنسى. خلال ساعات، تحولت القصة إلى موجة تضامن على مواقع التواصل. مشاركات، تعليقات، دموع إلكترونية صادقة.
شباب من جامعات، سيدات من جمعيات، رجال أعمال، مهاجرون في الخارج… الكل أراد أن يمد له يد العون، لا من باب الشفقة، بل من باب المسؤولية. خلال أسبوع، تم ترميم غرفته، زوّدت بالكهرباء والماء، وتم إدراجه في برنامج دعم اجتماعي شهري.
الكرامة لا تُشترى
بعد أيام، زاره الصحفي مرة أخرى وسأله: “كيف تشعر الآن؟” أجاب العم ح بكلمات لا تُنسى:
“أنا مبسوط إن فيه ناس لسه فيهم خير… بس زعلان إن لازم أتعري قدام الدنيا عشان آخد حقي في العيش. كنت أتمنى آخده في صمت، بكرامة.”
هذه الكلمات أعادت الحوار إلى نقطة البداية: هل يحتاج الإنسان إلى قصة مأساوية، وصورة باكية، كي يتحرك المجتمع لأجله؟ وهل أصبح الحصول على الرغيف معركة إعلامية؟
الحقيقة التي لا تُروى
العم ح ليس حالة نادرة. بل هو مرآة لآلاف يعيشون في المدن والقرى، منسيين، صامتين، يكتمون صرخاتهم لأنهم تعودوا على الصبر، أو لأنهم خجلوا من سؤال الناس. لا يمتلكون حسابات على مواقع التواصل، ولا صوتًا في الإعلام. وجودهم مجرد ظلال في مجتمع يركض خلف الأضواء.
هل ننتظر دومًا “تريندًا” حتى نلتفت لهؤلاء؟ أم آن الأوان لإعادة ترتيب أولوياتنا، لنضع الإنسان البسيط في مقدمة المشهد، لا في خلفيته؟
رسالة المقال
قصة العم ح ليست مجرد قصة تُروى، بل صرخة. رسالة إلى كل مسؤول، وكل إعلامي، وكل مواطن: هناك من يموت جوعًا لا لأنه فقير، بل لأنه عفيف. هناك من لا يطلب لأنه لا يريد أن يُذل.
فكروا فيها: هل تعرف “عم ح” في شارعك؟ رجل عجوز يمر يوميًا ولا ينتبه له أحد؟ لا تنتظر أن تكتب عنه جريدة… كن أنت الجريدة، كن الصوت، كن الرحمة التي لم يجدها في الطابور.
شاركونا: هل مرّ عليكم يوم شعرتُم فيه أنكم على حافة الانكسار فقط من أجل الحصول على شيء بسيط؟