هل خُدعنا بحلم الطبقة الوسطى؟ عندما تحوّل الأمان إلى رفاهية!

لسنوات طويلة، كانت الطبقة الوسطى تُشكّل العمود الفقري للمجتمع. هي التي تُعلم، وتُنتج، وتبني، وتُربي. لم تكن فاحشة الثراء، ولم تكن غارقة في الفقر، لكنها كانت قادرة على أن تحيا حياة كريمة مستقرة، تُخطط، تُنجز، وتحلم بمستقبل أفضل. كانت الطبقة التي تسعى إلى الاستقرار لا إلى الترف، وتحلم بالتطور لا بالثراء. لكن شيئًا ما تغيّر.
ما هي الطبقة الوسطى أساسًا؟
الطبقة الوسطى ليست مجرد رقم في جدول إحصائي أو بندًا في تقارير البنك الدولي. إنها الفئة التي تستطيع تأمين حاجاتها الأساسية دون معاناة، والتي تعيش حياة فيها قدر من الكرامة: سكن لائق، تعليم مقبول، علاج إنساني، طعام كافٍ، وأمل في تحسن الأوضاع. هي تلك العائلات التي تُخرّج الأطباء والمهندسين والمعلمين، والتي تُرسّخ القيم الاجتماعية المتوازنة.
لكن في العقود الأخيرة، بدأت تتلاشى هذه الصورة. بدأت تلك العائلات تفقد شيئًا فشيئًا قدرتها على توفير التعليم الجيد لأبنائها، أو العلاج المناسب لكبارها، أو حتى قضاء عطلة بسيطة دون حسابات مرهقة. صار الانتماء للطبقة الوسطى عبئًا لا شرفًا، وكأنهم في منطقة عالقة: لا هم أغنياء، ولا هم مدعومون كالفقراء.
الرواتب تتآكل… والأسعار تحلّق
في مشهد يبدو كاريكاتوريًا، ظلّت الرواتب تراوح مكانها، بينما ارتفعت الأسعار بلا توقف. تضاعفت تكلفة المعيشة خلال سنوات قليلة، وأصبحت أبسط الضروريات عبئًا يوميًا. كيلو الطماطم أصبح حديثًا يوميًا على وسائل التواصل، وشراء دفتر مدرسي صار يُؤجل إلى حين.
الخضار، الدواء، فواتير الكهرباء، وقود السيارة، مصاريف المدارس، جميعها أصبحت أشبه بثقب أسود يبتلع الدخل الشهري قبل منتصف الشهر. المواطن الذي كان يعيش على راتبه بثقة، بات يحسب كل شيء: من عدد مرات شراء الخبز، إلى دقائق تشغيل التكييف في الصيف.
الرفاهية القديمة أصبحت أمنيات
هل تتذكر حين كان شراء كتاب أو حضور أمسية سينمائية أمرًا طبيعيًا؟ هل تتذكر المطاعم الشعبية التي كانت ملاذًا لعشاء بسيط دون شعور بالذنب؟ الآن، هذه الأشياء أصبحت “ترفًا” حقيقيًا. الخروج مع الأصدقاء بات يُحسب بالورقة والقلم. حتى شراء حذاء جديد قد يُؤجل لأشهر، أو يُستبدل بحذاء مستعمل.
الأسرة الواحدة باتت تحسب تكلفة خروجة واحدة كما لو أنها تُخطط لرحلة دولية. بعض الأسر استغنت عن الاشتراكات التلفزيونية، عن وجبات المطاعم، عن الرحلات الأسبوعية، وحتى عن الترفيه البسيط كشراء لعبة للطفل أو فستان للابنة. ليس لأنه لا يهم… بل لأنه لم يعُد ممكنًا.
ما بعد الصدمة: أزمة الهوية الطبقية
مع تآكل قدرة الطبقة الوسطى على الحفاظ على مستوى معيشتها، بدأت تظهر أزمة صامتة: أزمة الهوية الطبقية. الناس لم تعد تعرف: هل ما زالوا من “الوسط”؟ أم أصبحوا أقرب للفقر، لكنهم يخفونه؟ البعض يُخفي أزماته خجلًا. البعض الآخر يُنفق أكثر من طاقته حفاظًا على المظهر، مما يزيده غرقًا في الديون والإرهاق.
وهذا الانهيار لا يُقاس فقط بالأرقام، بل يُقاس بما هو أعمق: بكمّ الإحباط، وقلة الحافز، وغياب الطموح. حين تصبح الحياة كلها محاولة للنجاة، دون فرصة للتطور، يبدأ المجتمع بالتآكل من الداخل. الإنسان الذي يفقد الأمل، هو قنبلة موقوتة: في نفسه، وفي محيطه، وفي مستقبل بلده.
من المسؤول؟
من السهل توجيه الاتهام. البعض يُحمّل الحكومات المسؤولية كاملة، وآخرون يُشيرون إلى الاقتصاد العالمي، وبعضهم يلوم الاستهلاك المفرط وسوء التخطيط. وكل هذه العوامل حقيقية. لكن الحقيقة المُرّة أن ما يحدث للطبقة الوسطى هو نتيجة تراكمات، لا قرار واحد.
حين تُهمل الدولة دعم التعليم، يصبح التعليم الجيد حكرًا على الأثرياء. وحين ترفع الدعم عن السلع الأساسية دون بديل حقيقي، يصبح البقاء للأقوى ماليًا. وحين تُغرق المؤسسات المالية الأسواق بسياسات قروض وفوائد خفية، يقع المواطن في دوامة لا خلاص منها.
لكن في المقابل، لا يمكن إعفاء الأفراد من المسؤولية تمامًا. بعض الناس استهلك أكثر مما ينتج. بعضهم جرى وراء مظهر لا يعكس قدراته. وبعضهم أهمل الادخار. لكن عندما يُصبح العجز جماعيًا، لا يعود الحديث عن أفراد… بل عن خلل في المنظومة كلها.
الطبقة الوسطى تختفي… ماذا بعد؟
إذا استمر هذا التآكل، فإننا نتجه نحو مجتمع ثلاثي الطبقات: قلة ثرية، كثرة فقيرة، وطبقة وسطى مُنهكة تتآكل ببطء حتى تختفي تمامًا. وعندها لن يكون هناك من يُعلم أو يُنتج أو يُربّي كما في السابق. لن يكون هناك من يُثبّت أركان المجتمع… لأن العمود الفقري قد انكسر.
غياب الطبقة الوسطى لا يؤدي فقط إلى أزمة اقتصادية، بل أيضًا إلى أزمات سياسية واجتماعية وأخلاقية. يصبح الغضب هو اللغة السائدة، واليأس هو المزاج العام. وتفقد المؤسسات العامة ثقة الناس، فيبحثون عن خلاص فردي… ولو على حساب المجتمع بأكمله.
هل من فرصة للنجاة؟
نعم، لا يزال هناك أمل. لكن بشرط: أن يتم الاعتراف أولًا أن هناك أزمة حقيقية. لا تُحل الأزمات بالإنكار أو بالشعارات. بل بوضع الطبقة الوسطى في قلب السياسات: بدعم التعليم المجاني الجيد، بتحسين الخدمات الصحية، بتشجيع الإنتاج المحلي، وبإعادة توزيع الثروة بطريقة أكثر عدالة.
كذلك، يحتاج الأمر إلى وعي مجتمعي: أن تتضامن الأسر، أن تدعم بعضها البعض، وأن يُعاد تعريف النجاح بمعاييره الواقعية لا الزائفة. النجاح ليس في السيارات أو السفر أو الهاتف الجديد، بل في أن تحيا حياة متزنة، تُنفق بحكمة، وتُخطط بحذر، وتحلم دون إفراط.
لن يُبنى أي مجتمع مستقر إذا كان قلبه الطبقي مكسورًا. والطبقة الوسطى هي هذا القلب. فإما أن نُعيد لها نبضها… أو نستعد لانهيار لن يُبقي أحدًا بمنأى عن نتائجه.