العجوز وبائع الأحذية: دروس في الكرامة لا تُنسى

في أحد الأحياء الشعبية المتواضعة، حيث تتداخل أصوات الباعة مع صراخ الأطفال، وتُروى الحكايات على أرصفة البيوت، عاشت (ك) حياةً تشبه حياة كثيرات مثلها. كانت أماً لابنةٍ لم تتجاوز العاشرة، تكرّر ما تعلمته من أمها وجدتها: “الأم الجيدة هي من تُطيع، من تُضحّي، من تُربّي بصمت”.
الروتين الذي يشبه السلاسل
كل يوم كان يبدأ على نفس النحو: تجهيز الفطور، تنظيف المنزل، التحقق من واجبات الطفلة، تحذيرها من اللعب مع أولاد الجيران، التأكيد عليها ألا تتحدث بصوت مرتفع. كانت (ك) تظن أنها تؤدي دورها الأمومي بإتقان، وتقتفي أثر من سبقنها من نساء العائلة، دون أن تدرك أن ما تعتقده تربية… كان في حقيقته تقييدًا ناعمًا.
المرآة التي لا ترحم
مع مرور الوقت، بدأت تلاحظ أن الصغيرة لم تعد فقط تطيع، بل أصبحت صامتة أكثر من اللازم. نظراتها تنسحب حين تتحدث، وصوتها يخفت إذا طُلب منها الرأي. كأنها تعيد تمثيل مشاهد قديمة عاشتها الأم نفسها حين كانت طفلة. شعرت (ك) أن ابنتها باتت تشبهها أكثر مما ينبغي… لا بالشكل، بل بالحيرة والخضوع والخوف من الكلام.
الدمعة التي فجّرت الوعي
ذات يوم، عادت الطفلة من المدرسة دامعة العينين. سألتها الأم بلطف، فأجابتها: “المعلمة قالت إني ما ينفع أمثل ع المسرح، صوتي واطي ومش حلو.” كان ذلك الرد كصفعة غير مرئية. شعرت (ك) أن دموع الصغيرة لم تكن تخصها وحدها، بل تسللت من عمقٍ قديم في صدرها هي. أحست وكأن طفلتها نطقت بما لم تستطع هي أن تقوله طوال عمرها.
قرار لم يكن في الحسبان
في تلك الليلة، جلست (ك) في غرفتها، تتأمل ابنتها وهي نائمة. سؤال بسيط أرّقها: “هل أربيها لتكون مطيعة؟ أم أُربيها لتكون حرة؟” لأول مرة في حياتها، شعرت أنها تملك خيارًا. لم يكن سهلًا، لكنه كان واضحًا: إما أن تُكمل طريق الصمت، أو تكسر القيد ولو على حساب راحة العائلة.
رحلة البحث عن الذات
بدأت الأم بالبحث. اشتركت في دورة أونلاين عن “التربية الإيجابية”، واستمعت إلى بودكاستات عن فهم احتياجات الأطفال، وقرأت كتبًا لم تكن تعرف سابقًا أن وجودها ممكن. اكتشفت أن تربية الطفل لا تبدأ من تحفيظه القواعد، بل من إعادة تفكيك ما بُني داخل الأم من خوفٍ قديم.
الصدمة العائلية
لم يمر التغيير بهدوء. واجهت (ك) مقاومة شديدة من والدتها، التي قالت بانفعال: “هل تعلمين أكثر منا؟ نحن ربيناكي وما طلعتِ بشيء ناقص!”، وانتقادات من الأخوات والجارات: “البنت سارت ترد، ما تستحيش؟”، “اللي يربي بنته كده ما يفرحش بيها”. لكن شيئًا في داخلها أصبح أقوى من المجاملة… أقوى من الخوف.
ثمار صغيرة… لكن مذهلة
بمرور الشهور، بدأت التغييرات تظهر. لم تعد الطفلة تخاف أن تُخطئ، بل بدأت تجرّب، وتجتهد، وتناقش. صارت تسأل أسئلة جريئة، تعبّر عن رأيها، وتقول “لا” أحيانًا بثبات مدهش. وفي احتفال المدرسة، وقفت أمام الجميع في عرض مسرحي وقالت بصوت هادئ لكنه واثق: “أنا أحب صوتي، حتى لو كان ناعمًا.”
حوار بين جيلين
جلست الأم في أحد الأيام مع والدتها، تحدثها لا بعناد، بل بلغة جديدة: “أنا مش ضدك، لكني مش رح أكرر كل شيء فقط لأني وُلدت هنا. بنتي تستحق فرصة تكون أقوى مني، أجرأ، أقدر على قول الحقيقة، حتى لو كل الناس رفضوا ذلك.”
ما وراء التربية… إعادة ولادة
تقول (ك): “كنت أظن أني أربي ابنتي، لكن الحقيقة أني كنت أعيد تربية نفسي. في كل موقف، كنت أواجه نسختي القديمة، الطفلة التي لم يُسمح لها بالكلام، ولم يُعترف لها بالمشاعر. وكنت أتعلم كيف أكون أمًا لا تُكرر الألم تحت اسم الحب.”
رسالة إلى كل أم
الأمومة ليست وظيفة. إنها رحلة تحول. ليست حفظًا لقوانين قديمة، بل إعادة خلق لما يجب أن يكون. أحيانًا، نحتاج أن نسأل أنفسنا: “لمن نُربي أولادنا؟” هل نُربيهم ليكونوا نسخًا من خوفنا؟ أم نُربيهم ليكونوا أحرارًا في قول لا؟
كلمة أخيرة
في مجتمعاتنا، لا تزال الأمومة تُختزل في الصبر والتحمل والطاعة. لكن التغيير لا يبدأ من القوانين ولا من الكتب. يبدأ من أم واحدة، في حي شعبي، قررت أن تسمع صوت ابنتها لا بآذانها فقط، بل بذكريات قلبها. ويكفي صوت صغير يخرج من بين الخوف… ليهدم جدارًا بُني في ثلاث أجيال.
—