حين تسقط… دائما تذكّر أن الله لا يُغلق بابه أبدًا

في زحمة الأيام، ومع تسارع نبض الحياة، تتراكم الخيبات على القلب وكأنها أمواج لا تهدأ. يشعر الإنسان حينها أنه تائه، لا يرى في الأفق بصيص نور، وكأن العالم كله يضيق عليه. يتساءل في داخله: هل ضللت الطريق؟ هل هذا يأس أم عقوبة؟ لماذا لا يُستجاب دعائي رغم كل ما مررت به؟
دعوة وسط الظلام
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، جلس م على طرف سريره، وقد أرهقته الأيام. جسده مُنهك، وروحه أثقل من الجبال. فقد عمله بعد خسارة تجارته، وتخلى عنه أصدقاؤه واحدًا تلو الآخر. كان يشعر كأن الحياة تدفعه نحو الهاوية، ولم يبقَ له شيء يتمسّك به. لكن أكثر ما أوجعه لم يكن فقدان المال أو الناس، بل الشعور أن بينه وبين الله مسافة لم تكن موجودة من قبل.
قال في نفسه بصوت متردد: “هل أخطأت؟ هل تجاوزت حدًا ما؟ لماذا لا أجد ردًا رغم دعائي؟” وبينما هو غارق في هذه التساؤلات المؤلمة، وجد نفسه ينزل عن سريره، ثم خرّ ساجدًا دون تفكير أو تخطيط. كانت سجدته صامتة، لكنها كانت تحمل في داخلها كل الكلمات التي عجز عن نطقها. قال فقط: “يا رب… لا تتركني.”
الباب الذي لا يُغلق
الكثيرون يعتقدون أن الرجوع إلى الله يحتاج طقوسًا معقدة أو ظروفًا خاصة، بينما الحقيقة أن لحظة التوبة لا تحتاج أكثر من صدق. إن الله لا يرد من جاءه منكسرًا، مهما كانت خطاياه. يقول الله في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي”. هذه الكلمات وحدها كفيلة بأن تُعيد الروح لقلب أنهكته الهموم.
من رحمة الله أنه لا يشترط عليك أن تكون صالحًا تمامًا كي تعود إليه، بل يشترط فقط أن تكون صادقًا في رغبتك بالعودة. ولو علم العبد كم يفرح الله بعودته، لبكى من فرط الحياء.
حين يُصبح الخوف حاجزًا
الخوف هو أحد أكبر الحواجز بين العبد وربه. كثيرون يخشون أن تكون ذنوبهم أكبر من المغفرة، أو أن الله قد غضب عليهم فلا فائدة من المحاولة. لكن هذه الأفكار ليست إلا وساوس تُغذّيها النفس الضعيفة والشيطان. لأن الهدف الأكبر للشيطان لم يكن أن نذنب فقط، بل أن نيأس بعد الذنب، وأن نظن أننا غير مرحب بنا عند الله.
لكن الحقيقة أعظم من هذا. لقد قال ﷺ: “لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها…” أي فرح أعظم من هذا؟
نقطة تحوّل
في صباح اليوم التالي، نهض م من سريره وهو يشعر بشيء مختلف. لم تتغير ظروفه المادية، ولم تُحلّ مشاكله بين ليلة وضحاها. لكن قلبه كان أكثر اتزانًا، ونفسه أكثر هدوءًا. قرر أن يبدأ بخطوة بسيطة: صلى الفجر في وقته، وقرأ آيات قصيرة من القرآن، وأغلق هاتفه ليبتعد عن كل ما يشتته.
بعد أيام قليلة، تلقى اتصالًا من شخص يعرفه منذ سنوات. عرض عليه فرصة عمل صغيرة في مشروع ناشئ. لم تكن تلك الفرصة ضخمة، لكنها كانت كافية لتبدأ بها رحلة جديدة. وافق م وهو لا ينظر إلى الربح، بل إلى أنها بداية موفقة في طريق التغيير.
وبينما يمضي الوقت، اكتشف م أنه لا يحتاج لامتلاك كل شيء كي يكون مرتاحًا. بل أدرك أن الطمأنينة تأتي من الداخل، من العلاقة بينه وبين الله، من تلك السجدة التي غيرت مسار حياته دون أن يطلب شيئًا فيها إلا القرب من الله.
الدين ليس عبئًا
يظن البعض أن الدين يُثقل الإنسان، أو يمنعه من الحياة الطبيعية. لكن الحقيقة أن الدين هو العكاز الذي يتكئ عليه القلب حين تضعفه الأيام. هو الطريق الذي إن ضللت عنه، تهت في دوامات لا تنتهي. وما أن تعود إليه، حتى تبدأ بالتنفس من جديد.
الله لا يريد منك أن تكون مثاليًا، بل يريدك أن تأتيه كما أنت. بضعفك، بخوفك، بأخطائك، بنواياك التي لم تكتمل بعد. لا تتردد. لا تؤجل. لا تقل “لست مستعدًا”. الله ينتظرك، لا ليُحاسبك، بل ليحتويك.
قلب جديد… برؤية جديدة
مرت الشهور، وبدأ م يشعر أن حياته تسير في مسار مختلف. لم يعد يقيس نجاحه بالمال أو الناس، بل بالسكينة التي يشعر بها بعد كل صلاة، والراحة التي تغمره بعد كل استغفار. أصبح يستيقظ وهو يشعر أن كل يوم فرصة جديدة للقرب من الله، ولتصحيح ما مضى.
وفي كل مرة يُخطئ، لا يعاقب نفسه بالقسوة، بل يعود إلى الله بنفس السجدة التي غيّرته أول مرة. فهم أن القرب من الله ليس نهاية طريق، بل بداية حياة مختلفة. حياة مليئة بالتواضع، والسلام، والثقة.
الرسالة
في هذا الزمن السريع، حيث القلوب مشوشة، والنفوس مضطربة، تذكّر دائمًا أن باب الله لا يُغلق. لا يهم كم أخطأت، ولا كم مرّ من الوقت، ولا كم مرة عدت وسقطت. المهم أنك لا تنقطع. أن تعود، وتعود، وتعود.
فقط قل: “يا رب…”، وستجد الله أقرب إليك مما تتخيل.
ربما لا يغيّر الله واقعك فورًا… لكنه سيغيّر قلبك. وبهذا القلب، ستتغيّر الدنيا بأكملها من حولك.